محمد خلفان الصوافي

يكاد يكون صعباً على المراقب أن يجد منطقة جغرافية في العالم تتشكل فيها الأحداث السياسية والأمنية خلال فترات بسيطة، وتنقلب الأوضاع فيها «رأساً على عقب»، مثلما يحدث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبالأخص الجانب العربي خلال الفترة الأخيرة، لأسباب مختلفة. لكن السبب الأهم في وقتنا الحاضر والأكثر بروزاً لدى المحللين السياسيين هو الفراغ الأمني الذي يعيشه العالم العربي بسبب ما يعرف بـ«الربيع العربي»، وبالتالي فقد تكون المنطقة عرضة لقيام دول إقليمية أخرى، تنافس الدور العربي باستمرار، باستغلال ذلك الفراغ وتعبئته، لاسيما إيران وتركيا. وذلك إما من خلال دعم الأقليات الدينية والطائفية في دول، مثل لبنان والعراق وسوريا، وإما عبر خلق أتباع لها في تلك الدول مثلما حدث في اليمن مؤخراً عندما سقطت العاصمة اليمنية صنعاء في يد جماعة «أنصار الله» أو ما صار يعرف بالحوثيين نسبة إلى مؤسس الحركة بدر الدين الحوثي. هذا بالنسبة لإيران، أما تركيا، فاعتادت هي أيضاً التدخل في الشؤون العربية مثلما فعل مؤخراً رئيسها أردوغان عندما وجه انتقادات للنظام المصري الحالي.

واليوم في عالم الفوضى الاستراتيجية التي يعيشها العالم، حيث لا زالت الإدارة الأميركية مترددة في اتخاذ قرارات تعيد للعالم استقراره، وفي ظل حرب عالمية ضد أخطر جماعة إرهابية في العالم، وهي «داعش»، يقلق حلفاء أميركا من عدم استكمالها للحرب كي تشمل كل الحركات الإرهابية في العالم، مثل «بوكوحرام» وغيرها. وفي ظل حالة الغموض التي تهدد استقرار المنطقة، وهي أهم بقعة فيما يتعلق بأمن الطاقة العالمي، وكذلك في ظل صراعات القوى الدولية على النفوذ في سوريا، فإنه يبرز في تحليلات السياسيين الدور المتزايد لإيران وما تفعله من أجل تحقيق مكاسب سياسية جديدة، بدخولها في صفقات سياسية مع القوى الكبرى دون أن تدفع الثمن اللازم لذلك، والسبب يكمن في حالة التراجع العربي.

&


تصريحت المسؤولين الإيرانيين بعد دخول الحوثيين صنعاء، أثارت الكثير من التساؤلات حول النوايا الإيرانية والمغزى الذي تحمله تلك التصريحات، وكأن إيران تريد أن تطرح نفسها «شرطي الخليج» كما كان يعرف في استراتيجية الرئيس نيكسون في الستينيات، أو أنها تحاول أن تكون شريكاً استراتيجياً لواشنطن في المنطقة، خاصة إذا ما تحكمت في المضائق المائية في المنطقة، مثل مضيقي هرمز وباب المندب، انطلاقاً من مطالب حركة الحوثيين، الحليف الجديد لإيران في المنطقة، حسب ما تشير إليه تفاصيل الاتفاقية مع النظم اليمني.

وبكل وضوح هناك انكماش سياسي عربي فيما تشهده المنطقة، حيث لا يوجد دور للجامعة العربية بتاتاً، بل يكاد يكون معدوماً بالمرة، والسبب -كما يعتقد البعض- هو تشتت مواقف أعضائها، كما أن الدور الخليجي الذي كان أحياناً يتم الرهان عليه عربياً لم يعد موجوداً حتى في أقرب التغيرات الحاصلة في المنطقة، بل إنه كثير من الأحيان تكون هناك اختلافات بين الدول العربية في تحديد الأولويات الاستراتيجية لها، لكن في مقابل الوضع العربي المتراجع، تستمر إيران في كسب النقاط الاستراتيجية في العراق ولبنان والآن في اليمن، وهو خاصرة الخليج. وبنظرة أكثر عمقاً يتخوف البعض أن يكون ما تفعله إيران أقرب لأن يكون تطويقاً لدول للمنطقة حتى وإن كانت هناك شكوك حول نجاح إيران في اليمن بالنظر لقلة عدد الحوثيين، ولطبيعة الشعب اليمني المتمسك باعتداله، وهو ما يعني لدى بعض المراقبين أن ما جرى هو فخ لإيران!

وفي ظل هذه التطورات، فإننا بصدد الكثير من التغييرات الاستراتيجية في المنطقة لإعادة تشكيلها وفق أسس جديدة. والخشية هي من أن يكون الانتصار الحوثي المدعوم من إيران هو أحد تلك التحولات الجديدة، لأنه بذلك سيصعب وضع حد للتمدد الإيراني في المنطقة، لذا أعتقد أن الأمر في حقيقته يحتاج إلى «سيناريوهات بديلة» لمواجهة تطورات الموقف؛ لأن الأوضاع في اليمن لم تستقر بعد بل قد يتواصل تصاعدها داخلياً بين «المنتصرين» (الحوثيين) و«المهزومين» (وهم بقية التيارات الأخرى وبالأخص «الإخوان» والقادة العسكريين والأمنيين». قد لا تكون هناك تأثيرات مباشرة على الاستقرار الأمني للمنطقة حالياً، لكن على المدى البعيد سقوط الدولة أمر خطير. بل إن ظهور «حركة» تنافس الدولة في سيادتها على شاكلة «حزب الله» اللبناني أمر ينبغي الانتباه له.

بناءً على ما يتم في الواقع السياسي العالمي من تطورات، فإنه ينبغي للعرب، خاصة دول الخليج، التعامل مع الوضع اليمني كأنه في وضع الاستعداد للانفجار في أي لحظة. على اعتبار أن هناك الكثير من الأطراف السياسية يمكن أن تفجر الوضع، سواء من الحوثيين أو من مؤيدي الانفصال كما حدث في عام 1994. وبالتالي يكون الاختيار الأفضل لدول الخليج هو العمل على إيجاد ترتيبات سياسية جديدة تتجاوز ما كان مطروحاً في الماضي كي تستطيع مواجهة التحولات أو التغييرات الإقليمية الكبرى.

من المهم ألا ينشغل العالم بقتال «داعش» عن الاهتمام بما يحصل في اليمن، فقد يبدو الأمر الآن داخلياً، لكنه في لحظة قد يتحول إلى كارثة جديدة في المنطقة، خاصة وأن إيران قلقة من أن تشمل الحرب على «داعش» النظام السوري حليفها الاستراتيجي، وربما بذلك تخسر حليفيها سوريا و«حزب الله». لهذا فإن الدور السياسي العربي ينبغي أن يتحرك بالطريقة التي تحافظ على الأمن العربي بالكامل لأن المشهد الأمني العربي بات مقلقاً.

لعل اتجاه دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية لتشكيل حلف سياسي جديد مع مصر والأردن هو أمر طبيعي لإنعاش الدور العربي، كما أن تحرك الدولتين نحو الدول الفاعلة في العالم، مثل فرنسا وروسيا، لتوازن الكفة مع الحلفاء التقلديين، أمر يحسب لها، ففي عالم السياسة الكل يبحث عن مصلحته.
&