أحمد عبد المعطي حجازي

أريد أن أوضح فى حديث اليوم بعض ما قلته فى حديث الأربعاء الماضى.فى حديث الأربعاء الماضى قلت إننا نحن المسلمين حين تخلينا عن المعتزلة وأعلنا الحرب عليهم، وحين تخلينا عن ابن رشد ونفيناه وأشعلنا النار فى مؤلفاته خرجنا من التاريح أو تركناه يواصل تقدمه فى ضوء العقل الذى بشر به المعتزلة وابن رشد حتى وصل إلى ما وصل إليه فى القرن الحادى والعشرين، على حين بقينا نحن فى العصور الوسطى نتشبث بها ونكررها ونخرج منها إليها عودا على بدء كأن الزمان انتهى عندها، فليس أمامنا إلا أن ننتظر اليوم الذى كان الناس ينتظرونه فى تلك العصور.

&

فى تلك العصور، بين القرن الخامس الميلادى والقرن السادس عشر كانت الكتب المقدسة هى المصدر الوحيد الذى يتلقى عنه الناس معلوماتهم عن الحياة والموت، وعن الطبيعة وما بعد الطبيعة، وعن الماضى والحاضر والمستقبل. وهكذا كانت الأرض مسطحة كما تبدو لهم، وكانت ثابتة فى مكانها لا تتحرك، والشمس تشرق فوقها وتغرب، و كان عمر العالم ستة آلاف عام تبدأ من آدم وتنتهى بعد ميلاد المسيح حين تقوم القيامة وينتقل الناس إلى الحياة الأبدية فى العالم الآخر.


هذه الثقافة كانت هى السائدة فى العصور الوسطى، عند المسيحيين وعند المسلمين على السواء، لأن مصدرها واحد. وهو الكتب المقدسة، مارتن لوثر الذى عاش فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر وتزعم حركة الإصلاح الدينى تنبأ بأن القيامة ستقوم بعد مائة عام، أى فى القرن السابع عشر. وفى القرن الثامن عشر أوشكت القيامة أن تقوم فى مصر كما يخبرنا الجبرتى فى كتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار» لولا أن أولياء الله الصالحين تشفعوا للمصريين فلم تقم! وكان قد أشيع أن القيامة، ستقوم يوم الجمعة السادس والعشرين من ذى الحجة سنة 140 هجرية (الثانى من أغسطس سنة 1728 ميلادية) فودع الناس بعضهم بعضا وهم يقولون: بقى من عمرنا يومان. وخرج الكثيرون إلى المتنزهات ليلقوا النظرة الأخيرة على الدنيا، وتوجه أهل الجيزة نساء ورجالا إلى النيل يغتسلون فيه، ومنهم من استولى الحزن عليه والخوف، ومنهم من أخذ يتوب ويصلى ويتوسل ويتضرع. ولم يكن المسلمون وحدهم الذين صدقوا النبوءة وإنما شاركهم المسيحيون واليهود، وكثر فى الناس الهرج والمرج حتى جاء اليوم الموعود ولم تقم القيامة، ومرت الجمعة وأصبح السبت وكل شىء على حاله. ففرح المصريون وقالوا: إن السيد أحمد البدوى، والدسوقى، والشافعى تشفعوا لنا لأننا لم نشبع من الدنيا!


ونحن نرى أن التنبؤ بيوم القيامة وتوقعه وانتظاره كان منطقا فرضته ثقافة العصور والوسطى وتصورها للعالم وللتاريخ، فقد خلق الإنسان فى السماء وطرد من الجنة ولأنه استجاب للشيطان وهبط إلى الأرض كائنا مكتملا وإذن فهو لا ماضى له ولم يتطور من وضع ليصل إلى الوضع الذى هو فيه، ولأنه جاء مكتملا فهو أيضا لا مستقبل له ينتقل فيه من حال إلى حال، والتاريخ الإنسانى إذن ليس حركة إلى الأمام، ولكنه دورات تتكرر، ودول يعقب بعضها بعضا، كل دولة أربعة أجيال كما يقول ابن خلدون تتطور من البداوة إلى الحضارة ومن الترف إلى الاغلال. وهذا هو التاريخ. الثبات فيه والتشبث بالماضى ضمان للبقاء، والتغير والتطور طريق للفساد والانحلال. فعلى الانسان أن يرضى بقدره ويستسلم له.


هكذا هو الموقف الذى جعلنا نخاصم العقل ونحارب المعتزلة وننفى ابن رشد الذى رحب به الأوروبيون فى بلادهم وترجموا فلسفته وتبنوا أفكاره وخرجوا منها بثقافة عقلانية تحرروا بها من ثقافة الكنيسة واكتشفوا العالم من جديد.


الأرض ليست مسطحة، وليست ثابتة فى مكانها، وليست مركز الكون، ولكنها كرة تدور حول الشمس وحول نفسها. والعالم لايقدر عمره بآلاف السنين كما جاء فى التوراة، وإنما يحسب بالملايين وبآلاف الملايين من السنين. والحياة لم تبدأ مكتملة، وإنما بدأت بسيطة وتطورت وظلت تتطور حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، وكما تطورت الكائنات الحية تطور العقل، وتطور المجتمع، وظهر المواطن الفرد الحر، وسقطت الامبراطوريات الدينية، وقامت الدول الوطنية، وانفصل الدين عن الدولة، وحلت النظم الديمقراطية محل الطغيان.


وأنا هنا أتحدث عن الأمم التى تحررت من الماضى وثقافته ونظمه واندفعت فى طريق المستقبل وأصبحت تعيش بكامل وعيها وبكامل طاقاتها فى القرن الحادى والعشرين. ونحن لسنا من هذه الأمم، نحن لانزال نعيش فى العصور الوسطى، لأننا لانزال نخلط بين الدين والسياسة، ولانزال، نخلط بين العلم والدين، ولا أظن أنى فى حاجة لتقديم الأدلة أو ضرب الأمثلة، يكفى أن ننظر حولنا لنرى أن جماعات الإسلام السياسى استطاعت منذ عدة عقود أن تفرض وجودها وتجعله أمرا واقعا معترفا به، وتحوله من شعارات إلى منظمات وشركات ومؤسسات وأحزاب تمكنت من الوصول إلى السلطة. فإن كانت قد فقدتها الثقافة السائدة فى هذه الأيام، فضلا عن الثقافة الموروثة، تسمح لها بالعمل على استردادها.


لقد ظلت مصر ولاية خاضعة للامبراطوريات الدينية المسيحية والإسلامية ستة عشر قرنا متواصلة بدأت فى القرن الرابع الميلادى ولم تنته إلا فى القرن العشرين، فإذا كانت مصر قد نهضت خلال القرنين الأخيرين واستردت استقلالها الذى فقدته فى القرن السادس قبل الميلاد، وأنشأت لنفسها ثقافة حديثة ودولة وطنية فقد خسرت خلال النصف الأخير من القرن العشرين كثيرا مما ربحته فى النصف الأول، خاصة فيما يتصل بتحديد العلاقة بين الدين والنشاط السياسى وبين الدين والنشاط الفكرى. ويكفى أن نتذكر هنا ما حدث لطه حسين حين أصدر كتابه «فى الشعر الجاهلى» الذى ميز فيه بين الدين والعلم، فالدين عاطفة والعلم منطق، والدين إيمان وتسليم، أما العلم فهو خبرة حية وتجارب معملية وقوانين ثابتة، من هنا لا يحق لنا أن نحاسب الدين بقوانين العلم أو نحاسب العلم بنصوص الدين.


يقول طه حسين فى مقالة يوضح فيها الفرق بين المعرفة الدينية والمعرفة العلمية: كل امرئ منا يستطيع إذا فكر قليلا أن يجد نفسه شخصيتين متمايزتين، إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتهدم اليوم ما بنته أمس، والأخرى شاعرة تلذ وتألم، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وترغب وترهب فى غير نقد ولا بحث ولا تعليل، وكلتا الشخصيتين متصلة، بمزاجنا وتكويننا لا نستطيع أن نتخلى عن إحداهما، فما الذى يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الشخصية الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟!».


غير أن الذين حاربوا المعتزلة وكفروا ابن رشد كفروا طه حسين وحاكموه وفصلوه من وظيفته فى الجامعة. ولهذا بقينا فى العصور الوسطى وخرجنا من التاريخ!.
&