مساعد العصيمي

كنت شابا يافعا لا أنفك من العمل، حتى أن أوقات الراحة في المنزل قصيرة إن لم تكن معدومة، هذا الأمر كان يشغل الوالدة رحمها الله، لتطلب من الراجي لعفو ربه كاتب هذه السطور أن يذهب إلى مقبرة العود ويطل من أعلى سورها القصير ويجول بنظره على القبور الكثيره "رحم الله أصحابها جميعا"، لأطلق سؤالي المباشر لها: أطل عليهم لماذا؟! ليأتي جوابها حاسما مقنعا: لتعرف أنهم انتقلوا إلى رحمة الله ولم ينهوا أعمالهم، أو حسب لهجتها العامية رحمها الله: "ما خلصوا أشغالهم".


تراءى لي هذا الحدث الذي مر عليه نحو عقدين ونصف العقد وأنا أقرأ قبل أيام عن استقالة رجل الأعمال المصري الشهير محمد العريان عن منصبه كرئيس تنفيذي لشركة بيمكو الاستثمارية، إحدى أكبر الشركات في العالم، والذي قُدر دخله السنوي منها بنحو 100 مليون دولار بسبب رسالة ابنته الصغيرة له التي ذكّرته بالمواعيد الكثيرة التي أخلفها معها جراء انشغاله بأمور الدنيا. لتكون استقالته مدوية، فهو الذي تم تصنيفه كأحد أكثر الاقتصاديين قوة وتأثيرا في العالم، ولُقب بحكيم "وول ستريت"، هذه الاستقالة حملتها العناوين الرئيسة في الصحافة العالمية، وارجعوا إلى "الإندبندنت" و"الديلي ميل" وكثير مما يساويهما قيمة وعراقة وهي تتحدث عن البنت الصغيرة التي اقتلعت العريان من عليائه ليتحول من رجل أعمال إلى رجل بيتوتي يستقر مع عائلته متفرغا كاملا لطلباتها.


الشاهد أن الأنسان جبل على الكد والجهد وكثير من ذلك ينسيه حتى أقرب المقربين له، وهنا أحسب أن مجتمعنا بات يعاني من إهمال الأبناء وتركهم لأصحاب الأفكار المنحرفة، بعيدا عن رقابة الوالدين الذين شغلتهم الدنيا حتى باتوا غير معنيين بهم.


قد يقول قائل ما بالك ترفض السعي وطلب الرزق، وكأنك لم تعرف أن آباءنا وأجدادنا قد هاجروا عقودا لطلبه، تاركين بلدانهم وأهاليهم وأبناءهم ولم تخرب المجتمعات ولم تتحلل؟! والرد على ذلك أننا ننشد التوازن، أما فيما يخص آباءنا فإنه حدث في زمن كان المجتمع يربي، واتجاهه معروف ومحدد، وللأقارب مسؤولية كما للأب تجاههم، أما الآن فالمسؤولية مناطة بوسائل التواصل الاجتماعي والأفكار الغريبة وما يستجد من إهمال نفسي وفكري.
ولعلي لا أكون مبالغا إذا أشرت إلى أن الدراسات السعودية الموثقة التي تحلل أسباب انحراف الأبناء والبنات وفسادهم وانغماسهم في الموبقات أو الأفكار المتطرفة أكدت أن السبب الرئيس غياب الوالدين وانشغالهما عنهم، فجعلوا تلك المساحة الفارغة لدى الأبناء تُملأ من قبل آخرين.


هنا لا أخال العريان إلا عرف الطريق الصحيح، لأن الاستثمار الحقيقي وخلال هذا الزمن الرديء هو الاستثمار في الأبناء، ولعلنا لا تغيب عن ذاكرتنا ومن خلال مجتمعنا أسماء بعض الناجحين اقتصاديا وحكوميا ودعويا، لكن نسلهم عرف الخيبة والانحطاط من فرط أنه لم يحظ بالرعاية العائلية التي احتاجها.. لنعلق دون أن نعرف أسباب ضياعهم بأن "النار ما تورث إلا الرماد" والحقيقة أن النار أكلت أبناءها من فرط أنانيتها لتجعل منهم رمادا.
رسالة العريان جديرة بأن تقرأ بشكل متعمق، لأن فيها معنى الاستثمار الحقيقي بعدما فلت العقال وبتنا نعاني من سوء المنتج الفكري والعملي من لدن كثيرين، من فرط ركضنا المحموم خلف الدنيا، فنسينا أننا أهملنا الأهم.