سُكينة المشيخص

عندما نستمع إلى تبرير شريف كواشي، في اتصال مع قناة فرنسية قبل لحظات من مقتله، حول دوافع مهاجمته بمعية شقيقه لمجلة «شارلي إيبدو»، لا بد أن نشعر أن الدين فكرة عاطفية تتصاعد حدتها بحسب الاستغراق النفسي والعقلي في تقدير الأسلوب المثالي أو النموذجي للدفاع عن الدين ومقدساته، فهو وشقيقه انتهيا إلى أن حافزهما لما فعلاه هو الانتقام للنبي الكريم، وهذا النبي هو ذاته الذي جمع مئات الملايين حول أفكار مقدسة تتطلب الاتفاق عليها والالتزام بمسار فكري وإنساني واضح انتهى من وضع لمساته النهائية في خطبة الوداع، وترك الناس بعدها على بيان من أمرهم مع مساحات هامشية للتقدير الظرفي بحسب مقتضيات الواقع الدنيوي، ذلك يعني أننا حينما نرى كل متطرف يقتل ويبرر، ويفجر ويلتمس الجنة، ويغدر لينتقم، أن الدين لم يعد يتحرك على ثوابت وإنما متغيرات أكبر وفي هوامش أكثر.


الدين الذي ينتقم له المتطرفون أصبح فكرة فاشية ورجعية وربما ميكيافيلية إلى حد كبير، فغايات المتطرفين تبرر وسائلهم بدم بارد، غير أننا في حالة الاتصال الهاتفي مع الأخوين كواشي نستعيد فكرة اختطاف الدين بيد قلة تغالي في سلوكها التعبدي والعقدي بطريقة لم تعد مجدية، 11 سبتمبر حسمت كثيرا من الأشياء والمتعلقات الإرهابية المتطرفة، يبدو أن ذلك كان ضروريا لإقصاء نظرية المؤامرة إلى حد ما في هذه السياقات العدائية العنيفة، فليس كل المسلمين على هذا النحو المتطرف، ولعلنا في هذا الإطار نقف عند نقطة تحوّل مذهلة حين نستمع إلى خطاب الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في معهد العالم العربي بالعاصمة باريس، عقب مجزرة المجلة، وهو يؤكد أن المسلمين في العالم هم أول ضحايا التطرف والأصولية وعدم التسامح.


ذلك فهم متقدم لم يعد يحتمل الذهاب بعيدا في التشويش على أمة كاملة أو دين سماوي بات يعلم الآخر أنه ليس بهذا السوء الذي يرشح من منتقمين ومختطفين وإقصائيين، والرئيس الفرنسي أسهب في شرح الفكرة الجديدة في التعاطي مع السلوك الإرهابي الديني حين قال: «التطرف الإسلامي يتغذى من كافة التناقضات والتأثيرات والآلام، ومن كافة أشكال غياب المساواة، ومن كافة النزاعات التي ظلت طويلا بلا حل»، ولم يتردد في التأكيد على أن مسلمي بلاده لا تزال لهم الحقوق والواجبات نفسها كباقي المواطنين الفرنسيين، وربما مثل هذه اللغة والخطاب السياسي والديني ما كان ليجرؤ زعيم أو أحد على التفوه به في وقت سابق وتال لسبتمبر أميركا.


وصولنا إلى مرحلة متطورة من الوعي الغربي بحقيقة الإسلام والمسلمين أصبح في الواقع حائط الصد لردود فعل المتطرفين وسلوكياتهم الإرهابية، وحين ننظر في النتائج التالية لذلك نجد أن نسبة نمو الدين الإسلامي بين سائر الأديان الوضعية والسماوية هي الأكبر، ولم يفعل المتطرفون جهدا دعويا إيجابيا يخولهم اختطاف الدين وإنما ذلك يأتي في سياق إجرامي بحت يزهق الأرواح ويعمد إلى تخريب أفكار الناس حول حقيقة الدين قبل أن يجدوا ما يساعدهم في استكشاف الحقيقة، وهي أن الإسلام دين أكبر من أن يأمر بالقتل ويسفك الدماء ويضيق الخناق على أتباعه وغيرهم، فهو دين ليبرالي يقدس الحرية ويعطيها بمساحات واسعة لأن الله وحده الذي يحاسب وليس متطرف أطلق لحية وحفظ النص والنصين أو امتشق بندقية وترنّم بأناشيد جهاد لا يستند إلى منجزات فقهية سليمة.


فرنسا كأميركا وغيرها دفعت ثمنا باهظا لأخطاء التطرف الديني، ولكنها لم تعد تؤمن بأن هذا الدين أو ذاك ينتج مثل هؤلاء الذين ينبتون في الظلام، وهي في العصور الوسطى خبرت مشكلات الثابت والمتحول في النص الديني الذي يصادر حقوق الآخرين في الحريات والتعبير عن أنفسهم. هناك أخطاء على نحو ما صاحبت الأداء الغربي في تعامله مع مناطق المسلمين سابقا وحاليا، ولكن لا يمكن أن تكون ردود الفعل في اختراق سلامة الأبرياء الذين من بينهم من يدافع عن المسلمين ودينهم، وفي اعتقادي أنه بعد استيعاب فرنسا للحادثة الإرهابية لم تعد من رسالة للمتطرفين يوجهونها للغرب، فقد انتهى الدرس، ولم يعودوا ذوي صلة بالدين حتى يدافعوا عنه بالقتل والدم والغدر، لقد حوّلتهم «غزوة فرنسا» إلى مجرمين كشف غطاؤهم الديني وأصبحوا خلف زجاج لا يستر عورة وإنما يكشف عزلتهم.. لم تعد لهم قدرة على اختطاف دين الناس بعد اليوم.