عرفان نظام الدين
&

قبل كل شيء، وفي البداية، لا بد أن أؤكد رفض الإرهاب واستنكار مقارعة الكلمة والصورة بالقوة والقتل. وأبصم بالعشرة بأن غالبية المسلمين في العالم يجنحون للسلم ويقارعون الحجة بالحجة ويتجاهلون التفاهات. وأقسم عن دراية بأن قلة قليلة من أصل بليون و٧٠٠ مليون مسلم لم يقبلوا الاعتداء على مجلة «شارلي إيبدو» وقتل رساميها، أو استنكروا ونددوا بالعملية على رغم الجراح التي أصابتهم نتيجة أحقاد الحاقدين.

&

كل هذا حقيقي وواقعي، لكن علينا أيضاً ألا نلجأ بدورنا إلى ازدواجية المعايير وننظر بعين واحدة إلى الحوادث ونغمض العين الثانية عن الأسباب والدوافع والاستفزازات وممارسات مجموعات «البادئ الأظلم». فمنذ البداية، كان جلياً أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن هناك أصابع خبيثة تحرك مثل هذه الأعمال المستنكرة «لغايات في نفوس يعاقيب» هذا الزمان، لتثير الغرائز وتدفع أفراداً أو تنظيمات إلى الرد عليها بعنف باسم الإسلام، فيضرب المغرضون عدة عصافير بحجر واحد هدفه النهائي تشويه صورة الدين الحنيف وإثارة الرأي العام العالمي ضد المسلمين.

&

وعلى رغم كل ما جرى، فإن الرأي الصائب كان يقضي بعدم الرد على كل هذه الترّهات وتجاهلها حتى لا تستغل من جانب المغرضين، كما جرى بالنسبة إلى المجلة المستفزة التي كانت تقف على شفير الإفلاس المادي والمعنوي... حتى جاء من يسعفها. فبعدما كانت تطبع ٦٠ ألف نسخة وتستعد لإعلان إفلاسها، استطاعت أن تستغل الحدث لتطبع ٥ ملايين نسخة.

&

ومنذ قضية سلمان رشدي و «آياته الشيطانية» في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، كنا ننادي بعدم الرد وتجاهل كتابه التافه، في رأي النقاد الغربيين. لكن الحملة العنيفة المعادية له وتهديده بالقتل أثارت التعاطف معه وجعلته شهيراً لفترة توارى بعدها يجر أذيال الخيبة والفشل. وتكرر الأمر مع «التجربة الدانماركية» والرسوم المسيئة للرسول، إذ قامت الحملة المضادة والتظاهرات وحرق السفارات، ما دفع المغرضين إلى ركوب الموجة والادّعاء بأنهم حماة الحريات والمدافعون عن حرية التعبير. ولجأ البعض إلى إعادة نشر الرسوم مثنى وثلاثاً ورباع بلا مبرر ولا تفسير سوى الحقد.

&

وجاء الرد الأهم عن السخط من مثل هذه الممارسات من البابا فرنسيس، أرفع مرجع مسيحي، الذي أكد بحزم أن حرية الرأي والتعبير لا تبرّر أبداً التعدي على المعتقدات الدينية والرموز المقدسة، لأن الحرية شيء وإهانة الآخرين شيء آخر، بل إن مثل هذه الأعمال هي التعدي الفاضح على حقوق الآخرين وحرياتهم، وفق المبدأ القاطع الذي يؤكد أن حريتنا تنتهي حدودها عندما تبدأ حرية الآخرين.

&

وهناك مبدأ راسخ يجب أن نؤمن به، وهو ألا نلتفت إلى الصغائر ونثق بأنفسنا وبديننا ونفخر بنبيّنا الحبيب الذي «ما ينطق عن الهوى»، ومَيَّزَه الله عز وجل بأنه على خلق عظيم. هذا النبي الكريم الصادق الأمين الذي أمَّن حتى الكفار في أماكن وجودهم، وقال لهم «اذهبوا فأنتم الطلقاء». وكان رحيماً لطيفاً مع الكبير والصغير والنساء والرجال. ومن يتمعّن في وصيته للجيوش، حتى في عز أيام الدعوة والجهاد، يدرك مدى إنسانيته ومخزون الرحمة في قلبه وفي عقله. فقد قال فيها: «لا تقتلوا صبياً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً ولا مريضاً ولا راهباً، ولا تقطعوا ثمراً ولا تخربوا عامراً ولا تذبحوا بعيراً ولا بقرة إلا لمأكل، ولا تغرقوا نحلاً ولا تحرقوه».

&

نعم هذا ما يدفعنا إلى التأكيد أنه ما من قوة على الأرض تستطيع أن تسيء إلى النبي، وأنه ما من أحد في الدنيا يستطيع أن يشوّه صورة ديننا الحنيف بمثل هذه الأساليب الرخيصة، فهو دين الإنسانية والرحمة للعالمين ودين المساواة والعدالة، على رغم وقوع المسلمين اليوم بين مطرقة الإرهاب وسندان الأعداء، أو كما ذكرت في مقال سابق، بين فكّي كماشة وضعت على رؤوسهم لوضعهم بين خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يكونوا إرهابيين يحققون مآرب الأعداء، وإما أن تلاحقهم الاتهامات لمنعهم من اتباع نهج الاعتدال والزعم بأنهم يشكلون البيئة الحاضنة للإرهاب.

&

فالاعتدال ممنوع، على رغم أن الحوادث الأخيرة فضحت الأكاذيب الكبرى وتوجيه التهم إلى دول عربية وعلى رأسها السعودية بأنها تشكل مصنعاً للإرهابيين، كما جرى بعد زلزال 11 أيلول (سبتمبر) 2001، فإذا بِنَا نرى اليوم أن الآفة انطلقت من دول الغرب، من باريس إلى السويد، ومن بلجيكا الى بريطانيا، ومن أميركا إلى كندا، وصولاً الى أستراليا، من دون أن ننسى الشيشان وأهلها المذبوحين بيد الروس والبوسنة. فكيف يبرر أصحاب النظريات الترويجية وجود أكثر من ٥ آلاف مقاتل أجنبي غربي في صفوف «داعش» وغيره في سورية والعراق، بينهم شبان وفتيات في عمر الورود؟ ومن يشرح لنا كيف جُنّدوا وجهّزوا وسافروا وتسللوا وحاربوا ووُجهوا وغُسلت أدمغتهم ليزدادوا شراسة ويرتكبوا الجرائم الوحشية التي لا علاقة للإسلام بها، بل هو براء منها الى يوم الدين؟

&

فقد كّنا نواجه بمقولات الفقر والنقمة والثورة... وغير ذلك من المبررات، لكن كيف يمكن مواطناً ومقيماً في دول متقدمة تمنح الحقوق والامتيازات والتأمينات وتتيح الحريات للجميع، أن يتجشّم أعباء هذه المهمات ويقاتل في ظروف قاسية وصعبة ويكشف أنيابه عن وحشية لا حدود لها وتطرف لا يمكن تخيل وجوده بين البشر؟

&

أسئلة مشروعة يجب أن يفكر في مضامينها الجميع، في الغرب قبلنا، من دون أن نبرّئ أنفسنا وثقافتنا وممارسات بعضنا، أو أن ننكر وجود مبررات داخلية وخارجية وترداد خطاب سياسي وديني يوحي بالتطرف في بعض الأحيان أو يسعى إلى إثارة الغرائز لأسباب معروفة، أو حتى أن يقصر في التوجيه والدعوة إلى اتباع نهج الحق والاعتدال والوسطية التي خصّنا بها الله.

&

كل هذا يحتاج الى التعمق في بحث مسألة الحوار بين الأديان والمذاهب بأسلوب عصري وموضوعي وصادق ونبذ الأحكام المسبقة. وبكل أسف، فإن كل المبادرات والنداءات التي أطلقها المغفور له خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز خلال السنوات الأخيرة لم تلق آذاناً صاغية ولا أيادي ممدودة من الأطراف المعنية التي كان من الممكن أن تتدارك الكثير من مكونات المأزق الراهن. فالحوار ليس ترفاً، ولا هو مجرد ندوات ومؤتمرات، بل هو قرار وعزيمة وإرادة لملاقاة هذه المبادرات، وبينها الوصول إلى صيغة مشتركة لنبذ العنف وردع الإرهاب والتعايش بين الشعوب والأمم في ظل السلام والأمن والأمان.

&

وهناك أمر آخر، وهو ضرورة اندماج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الأوروبية. فحتى الآن، لم يجر استيعاب الملايين في إطار المواطنة الحقيقية، فهؤلاء يعيشون في «غيتوات» تحوّلت أوطاناً متفرقة مغلقة، فيما تتعامل معهم الشعوب والأنظمة كجسم غريب لا يُلتفت إليه إلا في أيام الانتخابات. وهذا من دون أن ننكر الحقوق التي حصل عليها المقيمون والمجنّسون، والتي تماثل حقوق المواطن الأصلي، لكنها تبقى ناقصة بسبب عقدة النقص والحساسيات تجاه الجاليات مقابل عقدة التفوق أو حتى العنصرية.

&

أما على الصعيد الخارجي، فإن توالي الأزمات والحروب وأعمال العنف ولّدت مجتمعات حاقدة ومستنفرة زادت من حجم الأخطار والخطايا وأدت إلى وقوع مواجهات مستمرة تغذيها ممارسات مشينة، مثل الإساءة إلى الدين والرموز. فزلزال 11 سبتمبر أشعل نار العداء، ثم تسبب باحتلال أفغانستان والعراق ومقتل مئات الألوف من دون أن يقدم أي خدمة للإسلام والمسلمين. وهذا الاحتلال بدوره لم يؤدّ إلا إلى زيادة الأحقاد واستمرار وجود «طالبان» و «القاعدة» التي باتت «قواعد» تنتشر في كل مكان، وصولاً الى «داعش» وأخواته في العراق وسورية، وكأنها فروع لماركة تجارية تحمل شعاراتها وأفكارها وتمارس نشاطاتها وفق غايات ومآرب، بعضها مغرض وبعضها الآخر مضلل. وقد أدى التأخر في وقف الحروب العربية إلى انتشار هذه الآفة واستمرارها من دون حسم، ما يدفع إلى التحذير من الآتي الأعظم. كما أن استراتيجية التحالف الدولي القائمة على البطء والتردد والاقتصار على الضربات الجوية المحدودة ستؤدي إلى إطالة أمد المأساة، فضلاً عن تعزيز نفوذ العنف والتطرف.

&

إنها مهازل ستتحول إلى مآس إذا لم يُسارَع إلى إيجاد حلول جذرية لإخماد النيران قبل فوات الأوان، وحتى لا ينتصر الإرهاب.

&

وفي الختام، ليتأكد الجميع أننا نجاهر برفض الإرهاب والعنف والاغتيال، ونحرص على حرية الرأي، لأننا أبناء دين مكارم الأخلاق والسلام والحوار، لكننا لسنا «شارلي» ولا ننتمي إلى هؤلاء التافهين الذين يتاجرون بالحريات ويخفون أحقادهم وراء قناع حق التعبير وتجاوز المقدسات والتعرض للرموز المقدسة. ولهذا أقول: je ne suis pas charlie، أنا من محمد (صلى الله عليه وسلم) ومن آل محمد، ومن آل يسوع المسيح (عليه السلام) الذي أساؤوا إليه أيضاً من دون أي رد من الغيورين على الحريات. ونحن نحب إخواننا ونتعايش معهم وندافع عنهم، لكننا نرفض أي إهانة لرموزهم ورموزنا، ونفضح من يَصْب الزيت على النار لمصلحة الأعداء والحاقدين ومن ينفذ مآرب خبيثة لإثارة الغرائز وتشجيع الإرهاب، ومن ثم استغلاله لمحاربة الإسلام والمسلمين والإساءة إلى آخر الأنبياء والرسل الذي خصه الله عز وجل بقوله: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».
&