محمد الساعد

في العام 1980، قامت رئيسة الوزراء البريطانية السيدة تاتشر بأول زيارة رسمية إلى المملكة العربية السعودية، كانت تاتشر حينها نجمة النجوم، فهي أول امرأة غربية تترأس حكومة بحجم الدولة العظمى بريطانيا.

&

تقول تاتشر في روايتها للزيارة: «لقد حذرني مستشاري من الأمير فهد - ولي العهد حينها -، وقالوا لي إنه سياسي بارع ومحاور داهية».

&

تقول والرواية هنا لتاتشر: «وصلت وكان العاهل السعودي الملك خالد في استقبالي، وكان على بعد منه الأمير فهد بن عبد العزيز، فوجدت رجلاً صامتاً، يسير على بعد خطوات مني ومن الملك خالد، لقد سخرت من رأي وتوصية مستشاريي».

&

لم تكن سوى ساعات حتى بدأت اللقاءات الرسمية، التي ترأسها من الجانب السعودي الأمير فهد، تقول: «فوجدت أن هذا الأمير هو أعمق وأدرى وأدهى بدروب السياسة مما حذرني منه المستشارون، وعلمت حينها أن تقاليد بيت الحكم السعودي، تقتضي أن يكون الأمير في حضرة الملك - حتى ولو كان وليا للعهد - بذلك الأدب الجم، والاحترام العميق لهيبة ملِكِه وتقاليد أسرته».

&

هذه القصة تلخص ببساطة تقاليد بيت الحكم السعودي، الذي تأسس قبل 271 عاماً في الدرعية، واستعصى فهمها على الكثير ممن يدعون قربهم منها، وهي تقاليد عميقة وثرية ومتوارثة، ولا يمكن الحياد عنها.

&

وبالطبع تبدو غامضة للكثيرين، لكنها جزء من منظومة كبرى، تظهر تجلياتها من خلال تعاملها مع شأنها الداخلي والخارجي في أصعب أزماتها، وهو ما حقق لها هذا الاستقرار النموذجي طوال أكثر من 100 عام.

&

السعودية في دولتها الثالثة التي أسسها الملك عبدالعزيز العام 1902، كانت النموذج الأفضل في كل تاريخ الدول الثلاث، فقد نضجت الدولة، وترسخت معالمها، وأصبحت أكثر حداثة، كما أنها أصبحت أكثر برغماتية مع متغيرات العصر، ومتطلبات العلاقة مع العالم.

&

الذي شكل الدولة السعودية الثالثة بهذا الثقل المتعاظم، كان بلا شك تلك المعادلة التي تخلقت من حيوية وعزيمة الشاب «عبدالعزيز» ذي الـ19 عاماً وأورثها لأبنائه.

&

منذ تلك اللحظة، وضعت العائلة المالكة السعودية ترتيباتها الخاصة، التي تقتضي أن تسير الدولة بقلب شاب، وروح متوثبة، وحكمة كبار تراكمت على مدى ثلاث دول.

&

اليوم تخطو المملكة خطواتها الجديدة بالحكمة نفسها، المتمثلة في تجارب وحكمة الملك سلمان، وولي العهد الأمير مقرن، وبحيوية الشباب التي تتجسد في الأميرين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان.

&

يبدو أننا اليوم ومع هذه الكتيبة الشابة التي يطلقها الملك سلمان، سنشهد مشروعاً سعودياً جديداً، بعدما تجاوزت المملكة مفصل انتقال الحكم بكل سلاسة وسهولة إلى الجيل الثالث، مضافاً إليها انحسار الخطر الإقليمي الذي كان مسلطاً على المملكة منذ بداية «الخريف العربي».

&

فما هو هذا المشروع الذي يعتزم الملك الجديد إطلاقه في الفضاء السعودي والدولي؟ الملك الجديد الذي جاء بالخبرات المتراكمة في الحكم، سيصنع التقدم نحو مشاريع وملفات لا تزال عالقة اجتماعياً في المملكة، وسياسياً في الخارج.

&

هذا يتيح فرصة كبرى ونادرة للملك سلمان لبناء مشروعه السعودي الجديد، والمستند على التحالف «السعودي - السعودي»، وتعظيم وتقديم مصالحه أولاً، ومن ثم مصالح الإقليمين العربي والإسلامي. ويقوم المشروع «الحلم» الذي نتمناه، الخروج من عباءة الخليج الصغيرة على حجم المملكة ومكانتها العظمى، والتقدم بها نحو قيادة الفضاء العربي والإسلامي من جديد، لاسيما مع التراجع الكبير لأدوار دول عربية وإسلامية، كنتيجة حتمية لما أصابها اقتصادياً وسياسياً خلال الأعوام الماضية.

&

إن عودة السعودية إلى قيادة العالم العربي والإسلامي، لا تقتضي بالضرورة الانجرار نحو أسلمة المجتمع وتكثيف الوعظ كما يتصور البعض، بل تقوم على نشر «القوة الناعمة»، التي تتجلى في أبهى صورها في قوة روحية ومعنوية هائلة بوجود الحرمين الشريفين، إضافة إلى ريادة السعودية اقتصاداً وفناً وثقافة وتراثاً ورياضة.. إلخ، إنها جزء من روح «معرض المملكة بين الأمس واليوم»، التي ابتكرها وطاف بها «الأمير سلمان» العالم كله. اليوم نحن في حاجة إلى تلك القوة السعودية الناعمة، من خلال ما تجسده المملكة من أفكار ومبادئ وأخلاق على مستوى السياسة والاقتصاد والدين، تعيد تموضع السعودية في العالم كدولة مهمة، ليست منتجة للنفط فقط، بل أمة متحضرة متمدنة تحمل المستقبل في عينيها وروحها، والماضي في قلبها.

&

&

&


&