محمد الرميحي

بعد سنوات قليلة تدخل الدولة السعودية الثالثة قرنها الثاني، هي جغرافيًّا أكبر من مجموع دول أوروبا مساحة، وتحتضن قدرات اقتصادية وروحية هائلة: الثروة المعدنية من جهة، ومدينتان مقدستان لدى أكثر من مليار مسلم من جهة أخرى. لها فرادتها؛ فقد أصبحت رقما هاما في العلاقات الدولية والإقليمية، رتب على قيادتها تحديات ضخمة تزداد بمرور الأيام. فليس من المستغرب أن تكون في بؤرة الاهتمام العالمي بعد أن فقدت واحدا من كبار حكامها هو المرحوم الملك عبد الله بن عبد العزيز، وتسنم القيادة الملك سلمان، الذي وصفه الأمير خالد الفيصل بـ«حكيم الرأي».


الحديث عن الملك سلمان بن عبد العزيز، كملك سابع في سلسلة الأسرة المالكة السعودية، لا يجوز أن ينفصل عن سلسلة أبناء عبد العزيز المؤسس. ولكي نعرف المستقبل أو بعض ملامحه، علينا بقراءة مبصرة للماضي، ففي سنوات عمله العام شهد الملك سلمان نهضة غير مسبوقة، شاهد كيف ينمو عدد الخريجين من السعوديين من رقم لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، إلى عشرات الآلاف كل عام، مؤشر بحد ذاته نقل المجتمع من حال إلى حال، كما شهد التطورات الإقليمية والدولية عن قرب معرفة المتابع المباشر.


أحد الخريجين السعوديين الأوائل يُوصّف الماضي القريب لرسم صورة المملكة التي سهر عليها الملوك الستة من أبناء عبد العزيز قبل أن يأتي سلمان إلى سدة الحكم. والسرد هنا للمرحوم غازي القصيبي الذي خبر عن قرب 4 من ملوك السعودية طيب الله ثراهم، بدءا من الملك فيصل وانتهاء بالمرحوم الملك عبد الله.


صفة التواضع أصيلة لديهم، يقول لنا غازي في كتابه «حياة في الإدارة»: «كان على الملك فيصل أن يسافر عن طريق السكة الحديد من الرياض إلى الدمام، وجلس صامتا طوال السبع ساعات للرحلة»، وعند الوصول كان على (غازي) أن يلقي كلمة ترحيبية نيابة عن أبناء المنطقة، فألقى كلمة ليس فيها من المجاملة شيء، قال له مرافق للملك بعد ذلك إنه لم يرَ الملك يصفق إلا تلك الليلة! الإشارة أن كلمات التزلف لا تجد أذنا صاغية لدى أبناء عبد العزيز، يضيف أن الملك خالد رحمه الله كان يضيق ذرعا بكلمات التزلف، بل ويعبر عن ضيقه ذاك علنا، وهي صفات طبيعية للبيئة التي تربوا فيها، وقد عرفت تلك الصفة بسلمان لكل من اقترب منه أو عرف عنه.


ويحمل سلمان معه حرص أولئك القادة على المنظومة العربية والخليجية والدولية، كما أن النظام لم يعانِ من عقدة المثقفين، فقد حمل المسؤولية لعدد من المثقفين السعوديين، حتى لاحظ غازي أن مجلس الوزراء كأنه «مجلس جامعة»، ولمن لا يعرف، يؤكد لنا غازي أن المناقشات في مجلس الوزراء السعودي تأخذ طبيعتها التي تقود في بعض الأوقات إلى التصويت إن كان هناك اختلاف في وجهات النظر.. إنها بناء المؤسسات حيث يلحظ غازي أنه كوزير لأكثر من وزارة لم يتدخل أحدا في عمله.. لأترك لعباراته الكلام، يقول: «عبر تجربتي الوزارية التي استمرت قرابة عقد من السنين، لم يكن هناك أمر واحد موجه إليّ بإعطاء هذا العقد أو ذاك لهذا الإنسان أو ذاك، ولم يكن هناك قرار واحد فُرض علي»، بل كان الملك فهد رحمه الله يقول: «اتركوا الناس تتنفس، لا تكتموا أنفاس الناس».. بمعنى بُعد الدولة عن إصدار كثيف للتشريعات والأوامر والنواهي الإدارية المقيدة.


طريقة ملوك المملكة في الإدارة والحكم هي تواضع جم مع حزم واضح، واهتمام بأمور الناس مع مصارحة، لأن المهم هنا هو رعاية مصالح الناس. من هنا فإن الملك سلمان يأتي ومعه خبرة عميقة في الإدارة والحكم، تقوم على أسس واضحة، وهي اختيار الأفضل للعمل العام، ومحاسبته إن أخطأ، إضافة إلى ذلك لديه إحساس بمسيرة التاريخ، فقد قدم بطريقة لافتة الجيل الثالث من الأسرة لقيادة بداية القرن الثاني من الحكم، بتثبيته الأمير محمد بن نايف وليا لولي العهد، كما أصدر مجموعة من القرارات أول من أمس (مساء الخميس) تهدف إلى تحديث آليات النظام ورجاله لإكمال السد العظيم، وهو بناء التنمية ورعايتها، وتدل خطوات الملك سلمان على أنه يصغي السمع لنبض الشارع السعودي وهو القريب منه لعقود ويعرف تحولاته، وهذا بحد ذاته مؤشر، لمن يرغب أن يعرف، على أن طريق التوجه نحو المستقبل يمهد بمهارة.


ينتهي غازي في كتابه اللافت والثري بالتجربة المبصرة «حياة في الإدارة» بفقرة لافته وحاسمة، يتخيل فيها تعليقا من إداري سعودي يقرأ في كتابه في المستقبل فيقول «بعد ثلث قرن سوف يصل (عدد) سكان المملكة إلى أربعين مليونا، تقديم الخدمات الضرورية لشعب بهذا الحجم تحَد ترتعد أمامه فرائص الشجعان، أرى بعين الخيال إداريا شابا يقول وقت ذاك، مقارنة المشاكل التي قابلتكم بالمشاكل التي نقابل الآن لا تعدو أن تكون ألعاب أطفال»!
تلك رؤية لم تنتظر ثلث قرن، فالتحديات أمام الإدارة السعودية اليوم هي بالتأكيد أكثر بكثير مما واجه جيل البناة، وهي ليست فقط تنموية، ولكن أيضا جيوسياسية، يكاد بعضها أن يكون مستعصيا على الحل القريب، فالمنطقة تشهد ارتدادا عميقا نحو الحروب الأهلية والطائفية، ويخلق ذاك قلقا بمناوبة التغيير ثم تغيير التغيير.


بالنظر إلى الساحة نجد أن هناك استقرارا في الداخل، جاء من طبيعة الحكم والعلاقة بالناس، أكده الملك سلمان باستعجال الإصلاحات في الإدارة، وذلك من حسن السياسة، كما أن هناك قطاعا خاصا تطور في المملكة منذ سنوات يقوم بواجبه، وكان ثمرة عقول قررت أن تبعد الدولة ما أمكن عن شهوة كانت سائدة في الجوار العربي، وهي التحكم في السوق، وهو ضمانة اقتصادية بجانب كونه ضمانة اجتماعية، كما أن إعادة بناء منظومة عربية بجانب المنظومة الخليجية تتشكل الآن بشكل صحي، إلا أن التحديات ليست سهلة ولا هي بالقليلة، فالعالم يدخل في حالة تغيير لم نألفها من قبل، وتحتاج إلى تفكير وسياسات قد تكون غير تقليدية. وهكذا يأتي الملك سلمان إلى السلطة اتكاء على ثوابت أخلاقية واقتصادية وسياسية، وانطلاقا إلى مستقبل، محملا بحكمة بدأت في قراراته الأخيرة واضحة ومستقبلية.
آخر الكلام
يجمع أهل المعرفة على أن الدول تقوم على مؤسسات، ولكن للفرد القائد أيضا دورا في تشكيلها وتوجيه دفتها.