فهمي هويدي

&الحزن هذه المرة مضاعف، لكن المراجعة أوجب وألزم، فمقتل أكثر 30 من رجال الجيش والشرطة وإصابة أضعافهم (حتى الآن على الأقل)؛ ليس بالأمر الهيِّن.. وإنما هو حدث جلل يصدمنا ويروعنا.


وحين يحدث ذلك للمرة الثانية خلال شهرين ونصف (الهجوم على كمين كرم القواديس في شمال سيناء في منتصف نوفمبر الماضي، أوقع نفس عدد القتلى تقريبا)، ثم حين يكون للمقتلة سوابقها الأخرى في المحيط ذاته (قتل 16 جنديا وضابطا في مذبحة رفح الأولى عام 2012)، فإن ملف المراجعة ينبغي أن يفتح عن آخره، هذا إذا لم يكن قد فتح من قبل.


لا أستطيع أن أصف الحزن الذي صار جزءا من حياتنا، بعدما أصبح ملف القتلى المصريين متخما بالأسماء والفصول، كما له حواشيه وأنصاره ومحبِّذوه، الأمر الذي خلط الأوراق وسمم الأجواء وسوغ للبعض تبرير القتل والحفاوة به.. مع ذلك فأزعم أننا في لحظة ينبغي أن يستعلي فيها الجميع فوق جراحهم، ويحتشدون لمواجهة الخطر المحدق، إذ إن ما جرى في سيناء أقرب إلى النكسة الصغرى، فحين يستهدف 9 مواقع عسكرية وأمنية في وقت واحد، بالصواريخ ومدافع الهاون والسيارات المفخخة، ويشترك في العملية نحو 200 شخص حسب تقدير بعض الخبراء ويتم ذلك في توقيت محكم (بعد حظر التجول وأثناء مباراة الأهلي والزمالك)، فإننا نصبح بإزاء حملة عسكرية وليس مجرد عمل إرهابي، وحين تتم العملية في ظل الإجراءات الأمنية المشددة المفروضة من جانب الجيش والشرطة على سيناء منذ أكثر من شهرين، فإن الجرأة التي تمت بها وخطوات التخطيط والرصد التي سبقتها لابد أن تثير انتباهنا وتفتح أعيننا على حجم الخطر الكامن في سيناء، الذي جرت الاستهانة به ويبدو أن المعلومات الخاصة به كانت غير كافية.


وقفتنا الأطول والأهم يجب أن تكون عند مسألة المراجعة، وقد ذكرت أنني لا أعرف ما إذا كانت العمليات السابقة قد فتحت ذلك الملف أم لا، ولا ما إذا كانت الثغرات ونقاط الضعف التي مكنت الإرهابيين من تحقيق أهدافهم في السابق قد رصدت أم لا.. كما أنني لا أعرف ما إذا كان أحد قد تمت مساءلته جراء ذلك أم لا، لكن الذي أعرفه جيدا أن المراجعة والمساءلة واجبة، وأن المسؤولية ينبغي أن تحدد، سواء كانت مسؤولية مادية أو أدبية وسياسية، وأن ذلك كله لكي يتم، فهو بحاجة إلى درجة عالية من التجرد والشجاعة.
لقد قرأت في موقع جريدة «الشروق» ملاحظات في التعليق على ما جرى، أبداها مساعد رئيس الجهاز الوطني لتنمية سيناء الأسبق اللواء أحمد صقر، قال فيها إن مد حظر التجول في شمال سيناء، كان خطأ لأنه أوقف مصالح الناس وسهل لمنفذي العملية الذين قدرهم بحوالي 200 شخص أن يقوموا بمهمتهم.. كما دعا إلى إنهاء حالة الاحتقان المجتمعي التي انتشرت في سيناء بسبب الحظر، وانتقد أيضا تراخي الأجهزة التنفيذية المسؤولة عن التنمية عن القيام بواجبها، وانتظارها لأن ينهي الجيش مهمته مع أن دورها مهم حتى أثناء العمليات العسكرية.
من ناحية أخرى، وجدت أن تصريح

المتحدث العسكري عن العملية كان متواضعا للغاية لأنه بدأ بالإشادة بالضربات الناجحة التي وجهتها القوات المسلحة والشرطة للبؤر الإرهابية، والإشارة إلى فشل الإخوان في إثارة الفوضى، ثم أخبرنا بأن عناصر إرهابية قامت بالاعتداء على المقار والمنشآت الأمنية في العريش، وجارى تبادل إطلاق النار والتعامل معهم. وهو ما هوَّن كثيرا من الأمر.
أما وسائل الإعلام والمعلقون الإستراتيجيون فإنهم صدعوا رؤوسنا بالعبارات التقليدية والأفكار المعتادة، إذ تحدثوا عن العملية الخسيسة والدنيئة، التي استهدفت الشعب العظيم وتصدى لها ولغيرها الجيش الباسل. وأشادوا بتضحيات الشعب المصري في مواجهة الإرهاب (أحدهم قال إن الشعب مستعد للتضحية بمليون مصري ــ هو ليس أحدهم بطبيعة الحال ــ لكي لا تسقط الدولة ويعيش الـ89 مليونا الباقون في أمان وسلام).
ولم يفت المعلقين أن يتحدثوا عن ضرورة تصفية البؤر الإرهابية والانتقام للجنود والضباط الذين قتلتهم يد الغدر.. إلخ، الشاهد أن ما قيل هذه المرة سمعناه ونسيناه في المرات السابقة، الأمر الذي يوحي بأن هناك عزوفا عن التعامل الجاد والحازم مع الحدث.
ذلك أن ما جرى في العريش يكشف بوضوح ــ مثلا ــ عن أن هناك قصورا شديدا في المعلومات، لأن عملية بذلك الحجم لابد أن يكون الإعداد لها قد استغرق وقتا طويلا، خصوصا أن أعداد المشتركين فيها ليس قليلا، وليس مفهوما كيف حدث ذلك دون أن تنتبه إليه الأجهزة المعنية، وهي تعلم أن ثمة مواجهة واسعة النطاق مع الجماعات الإرهابية في سيناء. الأمر الذي كان يقتضي يقظة أكبر وحذرا أشد ورصدا ومتابعة أدق لعناصر تلك الجماعات.
إننا نتحدث الآن عن الانتقام وذلك معيار للقوة وليس الكفاءة، لأن الانتقام يتم بعد وقوع الحدث ومن خلال السلاح في الجو وعلى الأرض، أما الكفاءة فهي تقاس بمدى القدرة على إجهاض العملية ومنع وقوعها.. وقد أثبتت التجربة أننا نجيد الأولى في حين لم نحقق نجاحا يذكر في الثانية.


إضافة إلى ما سبق، فثمة أسئلة ينبغي الإجابة عليها في مقدمتها ما يلي:
* هل الإجراءات التي اتخذت في سيناء ساعدت على تراجع الإرهاب أم أنها زادت منه وعبأت المجتمع السيناوي ضد السلطة، وأعني بتلك الإجراءات عمليات التمشيط ــ وإعلان الطوارئ ــ وحظر التجول ــ وتهجير سكان رفح.
* من المسؤول عن القصور في المعلومات الذي مكن الإرهابيين في إتمام عمليتهم، فهل هناك تقصير في تأمين القوات والمنشآت العسكرية الموجودة في سيناء؟
* هل هناك علاقة بين العمليات الجارية في سيناء وتلك التي تحدث في بقية أنحاء مصر، علما بأن الأولى تتم بحرفية عالية وتقوم بها جهة أعلنت عن نفسها (أنصار بيت المقدس)، في حين أن العمليات الثانية بسيطة وبدائية والإعلام والداخلية وحدهما ينسبانها إلى الإخوان.
وحدها الإجابة على تلك الأسئلة وأمثالها هي التي تمكننا من تحويل النكسة إلى فرصة ــ وأرجو أن تتوفر لدينا المواصفات والجرأة اللازمة لتحقيق تلك النقلة.
&