هالة مصطفى

&

&

&

بعد أن هدأت العاصفة التى أثارها الحادث الإهابى المروع الذى وقع فى فرنسا ضد صحيفة «شارلى إبدو» يظل هناك العديد من الأسئلة والقضايا الجوهرية تتجاوز الحدث,

&


الذى لا يعدو كونه حادثا رمزيا لأزمة أبعد وأعمق لا تقتصر على إشكالية العلاقة بين الشرق والغرب أو بين ثقافتين متناقضتين ستقود إن آجلا أو عاجلا الى صدام أوسع و أشمل, وتتمحورتللك القضايا حول كيفية مواجهاتنا كمجتمعات عربية واسلامية للتطرف الدينى الذى مازال يُفشل كل مشاريع التحديث والتقدم نحو الدولة المدنية.

&

ولكى تتضح الصورة علينا تأمل بعض ردود الأفعال - أن لم يكن أغلبها - التى سادت أوساط الرأى العام وأظهرت ليس فقط الفجوة الثقافية المعروفة بين العالمين الشرقى والغربى ولكن وبنفس القدر عدم الرغبة فى مصارحة أنفسنا بأن لدينا مشكلة حقيقية بغض النظر عن موقفنا من الغرب رفضا أو قبولا. فعلى سبيل المثال لا الحصر اختزلت هذه الردود والآراء الأمر وراحت تبحث عن مبررات وذرائع بعد ادانتها اللفظية أو النمطية للإرهاب لتفسير الحادث مثل القاء اللوم على الصحيفة الفرنسية لتطاولها على الرموز الدينية الإسلامية (رغم أن هذه الصحيفة تحديدا معروفة بسخريتها اللاذعة لكل ما تعتبره تطرفا سواء انتمى الى المسيحية أو اليهودية أو الاسلام، ونفس الشىء تفعله ضد التوجهات اليمينية فى فرنسا التى تعادى غير الفرنسيين الأصلاء وأغلبهم من المهاجرين من العرب المسلمين. وفى كل الأحوال فهذا شأنها فى النهاية، لأنها تعبر عن ثقافة متجذرة فى مجتمعها) أوالحديث عن معاناة هؤلاء المهاجرين فى المجتمعات الغربية من النواحى الاجتماعية والاقتصادية وشعورهم بالتهميش وبالتالى تكون النتيجة هى التطرف والعنف

&

(وكأن وجهة النظر هذه تتجاهل حجم العنف الذى تمارسه الجماعات الإرهابية فى أوطانها والذى بات أغلبه موجها ضد أبناء نفس ديانتها أيضا) بل وهناك آراء ذهبت أبعد من ذلك متبنية نظرية المؤامرة لتشير الى دور خفى لأجهزة مخابرات (لم تحددها) فى افتعال هذا الحادث حتى تجد الدول الغربية مبررا كافيا لشن حرب واسعة فى المنطقة العربية بهدف تقسيمها تحت دعوى محاربة الارهاب, بينما تعالت أصوات أخرى متهمة الغرب بتوفير الملاذ الآمن للارهابيين ومنحهم جنسيات دوله، وبالتالى فان ما حدث لا يعدو كونه عقابا على ما اقترفته هذه الدول فى السابق. وأخيرا فقد اكتفى البعض بالقول بأن المتطرفين إنما يشكلون قلة من المسلمين لا يفهمون صحيح الدين أو يفسرون بعض نصوصه بصورة خاطئة لتنتهى الجملة عند هذا الحد!

&

فماذا يعنى كل ذلك؟ انه يعنى ببساطة أن الكثيرين - مهما بلغت درجة وجاهة آرائهم أو حملت بعض أوجه الصحة - مازالوا لا يركزون بشكل كاف على طبيعة المواجهة الشاملة لأخطر ظاهرة تعانى منها منطقتنا وهى الإرهاب المقترن بالأيديولوجية المغلفة بالدين بعيدا عن الاهتمام الموسمى أو اللحظى بها الذى لا يثار ويتجدد إلا عند وقوع كل حادث إرهابى ثم لا شىء بعد ذلك! أو أنهم ارتاحوا الى القاء العبء على الأجهزة الأمنية للدولة وهو أمر على أهميته بل ومهما بلغت درجة كفاءته لن يكفى وحده للتصدى لهذه الظاهرة فأكبر الدول لا تقوى على ذلك.

&

لابد من الاعتراف بأن هناك تقصيرا فى المواجهة الفكرية للتطرف الدينى وأن كثيرا من الملفات التى تفتح فى هذا الصدد لا تلبث أن تغلق سريعا دون حسم وبأن دور النخبة المثقفة مازال ضعيفا، وبالمثل المؤسسات المدنية والدينية وفى مقدمتها الأزهر، أما الأحزاب السياسية فهى غائبة أصلا عن كل القضايا الجوهرية التى يعانى منها المجتمع. فليس مهما أن ندين غيرنا وهو هنا الغرب فهذا الأخير الذى بات يمثل الحضارة المعاصرة بلا منازع قد استقر وحقق انجازات هائلة ولن تعود به عجلة الزمن الى الوراء ولم يعد يعانى من مثل هذه الظواهربعد أن وصل الى صيغة توافقية لتنظيم العلاقة بين الدين والدولة (وليس انكار الدين أو مصادرة حق الاعتقاد والايمان كما قد يشاع خطأ) وهو ما اصطلح على تسميته بـ «فصل الكنيسة عن الدولة» وكانت هذه المحطة تحديدا هى حجر الزاوية فى الانتقال من العصور الوسطى التى مورست فيها كل أنواع القهر والاستبداد الى الدولة المدنية الحديثة وما تلازم معها من اقرار و كفالة الحريات بجميع مستوياتها والاعلاء من قيمة الفرد بل وربما لخصت نقطة التحول هذه قصة الحضارة الحديثة كلها. وحتى لا يقال إن الشرق يظل شرقا والغرب غربا وبالتالى فكل ما يقع فيه أو يمر به من تطورات لا يخصنا فالرد المنطقى هو تأمل واقع ما كانت عليه المجتمعات الغربية فى ماضيها وأى ثمن دفعته كى تصبح على ما هى عليه الآن. فقد كان هناك تطرف واستبداد فى تطبيق التعاليم المسيحية (بلغة اليوم أصولية مسيحية) وكانت الكنيسة أو رجال الدين فى ذلك الزمان هم حراسها وباسمها ارتكبت أبشع الجرائم من خلال ما عرف بمحاكم التفتيش التى لم تصادر فقط حرية الفكر والاعتقاد والابداع وانما صادرت حياة كل من يجرؤ على التفكير وحرمت تداول كتب الفلسفة والعلم باعتبارها هرطقة وهذه الممارسات هى المعادل لمنهج «التكفير» الحالى الذى تتبناه جماعات الارهاب من «داعش» الى «القاعدة», ولكن بعد قرون وليس سنوات من الصراع الضارى بين القوى التنويرية وكنيسة العصور الوسطى انتصرت الأولى على «الفاشية الدينية» و ُولدت الدولة الحديثة، وتحرر الفرد وكانت الثورة الفرنسية هى بداية الانطلاقة الكبرى فى هذا الاتجاه والتى امتد تأثيرها الى أوروبا كلها وبعد ذلك الى باقى العالم للقيم الانسانية التى حملتها.

&

باختصار ليس المقصود من هذه المقارنة استنساخ التجربة لأن التجارب التاريخية لا تستنسخ أو تتكرر بحذافيرها، وانما التأكيد على أن ما تمر به مجتمعاتنا ليس استثنائيا فى تاريخ الأمم والشعوب وان كان استثنائيا بالنسبة للسياق الحضارى المعاصر وأن مواجهة التطرف وتجديد الخطاب الدينى ومراجعة كتب التراث والرد المباشر على الفتاوى التى تعتمد عليها مثل تلك الجماعات ليست من الأمور المستحيلة ولكن يجب أن نمتلك الارادة والجدية للفعل لا لمجرد الأحاديث المكررة عن ادانة الارهاب لنعفى أنفسنا من المسئولية أو التهرب من حقيقة أن الارهاب المنتشر فى العالم الآن هو نتيجة لأصولية اسلامية متطرفة.
&