صالح القلاب

مهما حاول أصحابه خداع الآخرين، من الشعوب والدول المتضررة، بأن هذا التحالف الذي يضم روسيا وإيران وكُلاً من النظام الحاكم في العراق والنظام الحاكم في سوريا، هو مجرد إطار للتنسيق الاستخباري والأمني بين هذه الأطراف الأربعة، فإن حقائق الأمور تشير إلى أن هذا الحلف «pact» هو حلفٌ سياسي وعسكري، وبالطبع «مخابراتي» أيضًا وأنه «حلف بغداد» جديد، ولكن لأهداف غير أهداف حلف بغداد الشهير المعروف الذي كان أُنشئ في ذروة الحرب الباردة وصراع المعسكرات في منتصف خمسينات القرن الماضي.

في منتصف خمسينات القرن الماضي (1955 و1956) تم تشكيل حلف بغداد الشهير من كل من بريطانيا وباكستان وإيران وتركيا وانضم العراق له بعد ذلك (في عام 1956) للوقوف في وجه المد الشيوعي في الشرق الأوسط (الذي هو المد الروسي الآن) وكانت الولايات المتحدة هي صاحبة هذه الفكرة، لكنها اكتفت بتقديم الدعم والعون الاقتصادي والعسكري للدول المشاركة، دون أن تشارك هي في هذا الحلف مباشرة، والسبب كما يبدو هو عدم إثارة مخاوف بعض الدول الأوروبية وبعض دول العالم الثالث، مما قد يدفعها إلى طلب دعمٍ وإنْ غير معلن من الاتحاد السوفياتي وكتلة المعسكر الشرقي.

كانت بعض الدول العربية من بينها مصر والأردن قد أبدت رغبة معلنة وغير معلنة للانضمام لهذا التحالف، لكنها ما لبثت أن تراجعت تحت ضغط «هيجان» الشوارع، الذي أججته الأحزاب القومية واليسارية، وبخاصة أن الرأي العام العربي قد فَهِمَ أو أُفهم أن هدف هذا التحالف هو حماية إسرائيل، وهو مواجهة المعسكر الشرقي الذي كان الانطباع السائد عنْهُ أنه يقف إلى جانب حركة التحرر العربي ويدعمها ضد المعسكر الغربي، الذي كانت لا تزال بعض دوله تستعمِرُ استعمارًا مباشرًا الكثير من الدول العربية من بينها على سبيل المثال وليس الحصر الجزائر وتونس في المغرب العربي، ومعظم دول الخليج في المشرق العربي.

وحقيقة أنَّ الأمر لم يكن على هذا النحو وأنَّ الدافع بالنسبة للعرب الذين تعاطفوا مع هذه الفكرة وفي مقدمتهم رئيس الوزراء العراقي في ذلك الحين نوري السعيد هو أنه يجب قطع الطريق على اعتماد الغرب، وفي مقدمته بريطانيا والولايات المتحدة، على إسرائيل لتكون مخفرًا متقدمًا له لمواجهة المد الشيوعي الذي بات يهدد الشرق الأوسط بموقعه الاستراتيجي وبإمكانياته النفطية المتعاظمة مما سيحول هذه الدولة التي تم زرعها في قلب الوطن العربي، قبل أقل من نحو عشرة أعوام فقط، إلى أن تصبح القوة العسكرية الرئيسية والمتفوقة في هذه المنطقة، والمعروف أن هذا هو ما حصل منذ ذلك الحين وحتى الآن.

كان رأي نوري السعيد، رحمه الله، أنه على العرب أن يغتنموا تلك الفرصة السانحة، وأنَّ عليهم ألاّ يدفعوا الغرب دفعًا لاعتماد إسرائيل كمخفر متقدمٍ له في أهم منطقة استراتيجية في العالم (في ذلك الحين والآن) وكان رأيه أن الخطر الفعلي الذي يهدد العرب ووحدتهم ومستقبلهم هو هذه الدولة، ولذلك فإنه لا بد من إقامة هذا الحلف، حلف بغداد، الذي يجب أن تنضم إليه معظم الدول العربية إنْ ليس كلها، لقطع الطريق لأن تصبح الدولة الإسرائيلية الدولة الرئيسية والأقوى والأهم سياسيًا وعسكريًا في هذه المنطقة، التي هي ليست مهددة في حقيقة الأمر لا بالمدِّ السوفياتي ولا بهيمنة الشيوعية العالمية، بل بهذه الدولة التي ستصبح متجذرة في الشرق الأوسط ومُهدِّدةً لكل دوله ولمستقبل أجياله، وبخاصة إنْ أفسح العرب، برفضهم لحلف بغداد، لها المجال لتكون عضوًا غير معلن في حلف شمال الأطلسي، وفي المعسكر الغربي الذي كان ولا يزال تقوده الولايات المتحدة الأميركية. وبالطبع فإنَّ العراق قد انسحب من هذا الحلف، الذي أصبح لاحقًا حلف الـ«cento»، بعد انقلاب عبد الكريم قاسم الذي أسقط النظام الملكي في العراق، وحيث تم «سَحْل» نوري باشا السعيد، الذي كان «منظِّر» حلف بغداد، في الشوارع وتم القضاء على العائلة المالكة قضاءً نهائيًا، حيث دخلت بلاد الرافدين بعد ذلك في دوامة الذبح والعنف المتواصل، إلى أن غزاها الأميركيون في عام 2003، وأصبحت محتلة من قبل إيران ووصلت إلى ما وصلت إليه.

وهكذا، وإذْ نسْأل أنفسنا الآن بعد كل هذه التجارب المرة، بعد احتلال إسرائيل لفلسطين كلها من البحر إلى النهر كما يقال، وبعد احتلالها لأجزاء من ثلاث دول عربية أخرى (في عام 1967)، وبجرأة وعلى أساس النقد والنقد الذاتي: ألمْ يكن نوري السعيد يا ترى محقًا عندما حذَّر من أن تصبح هذه الدولة المحتلة مخفرًا متقدمًا للغرب في هذه المنطقة، بحجة مواجهة الزحف السوفياتي نحو الشرق الأوسط؟ ثم ألمْ يكُن الإسرائيليون هم المستفيد الوحيد من انقلاب عام 1958، ومن إطاحة النظام الملكي في بلاد الرافدين وسحل نوري السعيد في الشوارع، وإيصال العراق، هذا القطر العربي المحوري، إلى ما وصل إليه.. وإلى الاحتلال الإيراني المباشر الذي لا يستطيع أي كان إنكاره؟!

ثم، هل كان من الممكن أن تنهار سوريا كل هذا الانهيار، وتصل هي بدورها إلى هذه الأوضاع المأساوية التي وصلت إليها بعد حكم استبدادي ظل يتفَّننُ في استعباد شعبها، وارتكاب مجازر متلاحقة بحقه منذ عام 1970 وحتى الآن، لو أنَّ انقلاب عبد الكريم قاسم في عام 1958 لم يُدخل بلاد الرافدين في هذه الدوامة، التي بقيت مستمرة ومتواصلة منذ ذلك الحين وحتى اليوم؟ وأيضًا، هل كان بإمكان إيران يا ترى أنْ تصل إلى سوريا، وأن تفتعل كل هذه المشكلات والإشكالات في الخليج العربي وفي معظم دوله، لو أن العراق بقي مستمرًا في مسيرته التصاعدية، ولو أنه بدل سلسلة الانقلابات العسكرية الدموية ودخل التجربة الديمقراطية من أعرض وأوسع أبوابها؟!

وهنا وفي كل الأحوال، فإنه لا بدَّ من الإشارة إلى أن حلف بغداد، الذي أصبح حلف الـ(cento) بعد انقلاب عبد الكريم قاسم عام 1958 وخروج العراق منه نهائيًا، قد اعتبِرَ منتهيًا بعد خروج إيران منه بعد انتصار الثورة الخمينية في فبراير (شباط) عام 1979، وإنه لا بد من الإشارة أيضًا إلى أن الأنظمة التي ورثت أنظمة الدول التي كانت قد أقامت هذا الحلف في عامي (1955 و1956) هي التي شكلت هذا الحلف الجديد، أي حلف بغداد الثاني، والتي هي بالإضافة إلى روسيا وإيران كلٌّ من نظامي العراق وسوريا التابعين تبعية مباشرة لموسكو ولطهران، وذلك مع ضرورة التنويه إلى أن هناك محاولات جادة يقوم به السيد علي السيستاني والسيد مقتدى الصدر ومعهما رئيس الوزراء حيدر العبادي لإنهاء السيطرة الإيرانية الكاملة على بلاد الرافدين، مع احتفاظها بعلاقات حسن الجوار مع هذه الدولة، التي من المفترض أنها «شقيقة» ولا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة.

إنه «دجل» سياسي واضح، ومن غير الصحيح على الإطلاق أن هذا التحالف الجديد، الذي ضمَّ إيران والنظامين العراقي والسوري بقيادة روسيا الاتحادية هو مجرد مركز للتنسيق الاستخباري بين هذه الدول لمواجهة «داعش».. إنه حلف سياسي وعسكري وأمني على غرار حلف بغداد الشهير الآنف الذكر ولكن بصورة معاكسة، فهذا الحلف هدفه السيطرة على هذه المنطقة، وإخراج نظام بشار الأسد من مأزقه الخانق بينما ذلك الحلف القديم كانت مهمته التصدي للمد الشيوعي والتصدي للتمدد السوفياتي في الشرق الأوسط، الذي كان ولا يزال يعتبر الأهم من الناحية الاستراتيجية في الكرة الأرضية كلها.

والمشكلة في هذا الحلف، الذي هو مجرد تكريس لوضع قديم بقي مستمرًا منذ عام 2011، أنه بتكوينه وبمنطلقاته وبدوافعه سوف يعمق الانقسام المذهبي والطائفي في العراق، وفي سوريا وفي المنطقة كلها، وهذا في حقيقة الأمر ستقع مسؤوليته على روسيا التي تضم أكثر من عشرين مليون مسلم، معظمهم، إن ليس كلهم، ينتمون إلى المذهب السني بحكم عوامل قديمة كثيرة من المفترض أنها معروفة.