مصطفى زين


بات واضحاً أن الشركاء الأميركيين والروس، متفاهمون على تقسيم الأدوار في الشرق الأوسط، فهم يكثفون لقاءاتهم السياسية والعسكرية، ويصرحون بأنهم متفقون على كثير من الأمور، وخلافهم الوحيد مصير الرئيس بشار الأسد. واشنطن تصر على رحيله فوراً قبل أن تستدعى القوى السورية إلى مؤتمر، برعايتهما، وتحت مظلة هذا التفاهم، لوضع حد للحروب التي فتكت وتفتك ببلادهم. ومن الأمور التي اتفق عليها الطرفان، وتعهدا العمل لتطبيقها أو فرضها على المتحاورين المفترضين، أن تكون سورية «موحدة وعلمانية»، على ما أعلن كيري ولافروف.


العلمانية وصفة سياسية ممتازة لبلاد متعددة المذاهب والطوائف والأعراق مثل سورية، ففيها السنّة والعلويون والشيعة والدروز والكلدان والأشوريون والسريان والأرمن والأكراد... لكن نظرة سريعة إلى الواقع السوري، بعد أكثر من أربع سنوات من الحروب فيها وعليها، تظهر أن ما اتفقت عليه واشنطن وموسكو مجرد تصور يحتاج إلى قوى سياسية وعسكرية وطنية لتطبيقه، إذ لا يمكن أن تكون هناك علمانية من دون علمانيين. ولا يمكن أن تكون البلاد موحدة من دون قوى تسعى إلى توحيدها وتؤمن به. فمعظم الفصائل الفاعلة على الأرض تقاتل باسم الدين، وتسعى إلى إقامة دولة إسلامية، ليس في سورية وحدها بل في سائر بلدان المشرق. ويكفي أن نذكر بعض هذه القوى التي تحتضن بعضها الولايات المتحدة ودول إقليمية لندرك مدى صعوبة التوصل إلى دولة علمانية. هناك جيش الفتح، وجيش أحرار الشام، والجيش الحر، وكتائب الفاروق، وجبهة النصرة، وداعش، وعشرات «الجيوش» الأخرى التي نشأت على أساس طائفي، بعضها يسعى إلى إقامة دولة الخلافة، وبعضها يسعى إلى إقامة دولته المذهبية مقابل ما يعتبره دولة مذهبية قائمة حالياً، وكلها يدعو إلى القضاء على الآخر لتطبيق اجتهاداته في الشريعة، بعد انتهاء الحروب، ويرى أنه وحده الجدير بالحكم لتطبيقها. أما «المعتدلون» الذين تدربهم وتسلحهم الاستخبارات الأميركية والتركية وغيرها، فولاؤهم الأول والأخير لمدربيهم، فضلاً عن أن اعتدالهم مشكوك فيه، فما أن أنهت مجموعة منهم تدريبها، وأرسلت إلى الجبهة حتى سلمت سلاحها إلى «داعش» أو «النصرة»، ما اضطر واشنطن إلى تعليق برامج التدريب بعدما خصصت لها أكثر من خمسمئة مليون دولار.


هذا عن القوى المسلحة الفاعلة على الأرض، أما القوى السياسية العلمانية فعلاً، مثل حزب البعث والحزب السوري القومي، وهيئة التنسيق فهي أضعف من أن تفرض شروطها، فضلاً عن أن بعضها غير مرغوب فيه لدى الدول الساعية إلى تقرير مصير سورية.


وسط هذه الدوامة من العنف والحروب الداخلية والخارجية، رأت الولايات المتحدة وحلفاؤها أن توحيد البندقية أفضل وسيلة لبلورة قوة قادرة على مواجهة النظام والجلوس إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى صيغة مقبولة دولياً تفرض على الطرفين. لكن توحيد البندقية عملية معقدة جداً، خبرها اللبنانيون جيداً في سبعينات القرن الماضي، تحتاج إلى حروب ودماء كثيرة بين أطراف الصف الواحد. وهذا ما نشهده الآن في سورية فـ «النصرة» و»داعش»، مثلاً، صاحبا عقيدة واحدة ومشروع واحد، لكن المعارك بينهما لا تتوقف. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: من الجهة التي ستحظى بالرعاية الأميركية لتوحد البندقية وتكون نداً للنظام في المفاوضات؟ وكم ستستغرق من وقت وحروب وقتل ودمار لتستطيع تحقيق هذا الهدف؟
واقع الأمر أن الأميركيين ليسوا مستعجلين، فالرئيس أوباما قدر الوقت اللازم للقضاء على «داعش» بعشر سنين، والتجارب لخلق «قوة معتدلة» ما زالت في بداياتها. أما الدولة العلمانية الموحدة فليست سوى اتفاق بين القوتين العظميين، وهي في حاجة إلى قوى «عظمى» محلية كي تقيمها. ولا وجود لهذه القوى على أرض الواقع.


العلمانية من دون علمانيين وصفة سحرية صعبة التحقق.
&