حسن حنفي

في اللغة السياسية يحدث تقابل بين الدولة الدينية والدولة المدنية ويكون مفهوماً، التقابل بين الدين والدولة، بين الديني والعلماني، ولكن قلما يحدث تقابل بين الدولة الدينية والدولة العسكرية على رغم سيطرة الدولة العسكرية وغياب الدولة المدنية في بعض الحالات العربية وخاصة خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.

&


وهذا التقابل أو الصراع ليس فقط صراعاً بين نظريتين، الثيوقراطية والديمقراطية، أو بين نظامين، أو سلطتين، بين قوتين سياسيتين، متنافستين على السلطة سلماً أو صراعاً. كلتاهما تمثلان أصحاب شركات وجماعات مصالح، بل وأحياناً منافع تجارية وشخصية. وقد يمتد الأمر إلى إنشاء مؤسسات موازية للدولة مثل المستشفيات والمدارس والجامعات والشركات التجارية، محلية وإقليمية ودولية. وفي الدولة المدنية السلطة للشعب، وهي متغيرة بتغير إرادة الشعب.

والدولة المدنية تقوم على تعددية القوى السياسية بتغير قوى أحزابها وثقافة التفاهم واستمرار منطق الحوار السياسي بينها وتداول السلطة، فلا يكون الحكم لحزب واحد دائم، ولا لسلطة واحدة، دون مراعاة قواعد اللعبة السياسية، وخدمة المصلحة العامة. وقد أثبتت تجارب التاريخ الغربي أن السلطة في الدول هناك قد تطورت من الكنيسة إلى الديمقراطية. وكل ثقافة تتعلم من تاريخها. وأكثر تاريخ تأثيراً في الأزمنة المعاصرة هو التاريخ الغربي الذي يصف تطور الحضارة من الميتافيزيقا إلى العلم. وفي السياسة، من الثيوقراطية إلى الأوليجاركية إلى الديمقراطية.

فمحاولة إقحام الدين في السياسة واختلاق صراع مفتعل بينه وبين الدولة، كل ذلك يراد منه تحقيق أغراض ومصالح خاصة. وطالما أن المصلحة الخاصة هي السائدة، وليس المصلحة العامة، يكون من المحتمل جداً أن تتم التضحية بالوطن، بالكل لصالح الجزء. وقد يُغذي بعض المثقفين المتمصلحين هذا الصراع، كل بقلمه كي ينال الحظوة وربما الدرجة حين يأتي الفريق الممدوح في السلطة. وتكون صورة الثقافة هي الثقافة التبريرية وليس الثقافة النقدية.

وقد يغذي هذا الصراع الثنائيات الوجودية المتضاربة الموروثة عبر التاريخ الثقافي: القديم والمحدث، الثابت والمتحرك. وتغذي هذه الثنائية النظرية ثنائية أخرى أخلاقية: الخير والشر. فلا فرق بين المعرفة والوجود والقيم. كما تغذيها بعض الثنائيات الأخرى الموروثة في الثقافة الغربية المركزية: الفكر والوجود، الشرق والغرب، الرأسمالية والاشتراكية، السلم والحرب. وقد يقوي ذلك تعاون المؤسسات الدينية مع الدولة واعتبار الثقافة جزءاً من الدولة، فالتصور المركزي للعالم إحدى دعائم هذه الثنائية الرأسية المتدرجة، الأعلى والأدنى.

وإذا ما وضع الدين والدولة في علاقة رأسية تتحول إلى علاقة حتمية. وتغيير هذه العلاقة الرأسية إلى علاقة أفقية يبرز مفهوم التقدم، بالمفهوم الفلسفي التاريخي، في رأي من يرون ضرورة العمل لتحقيقه، فالدين أحد عوامل تقدم البشرية ومراحلها الأولى في أخلاقياتها ومجتمعاتها. وقد فصل كثير من فلاسفة التاريخ مراحل تطوره في المفهوم الغربي جاعلين الثقافة الدينية نفسها تطوراً عبر تقدم مراحلها مع الزمن، وكذلك الفكر وصولاً إلى التنوير في القرن الثامن عشر. فليست القضية إذن عقلًا وحرية فقط، بل هي استقلال الوجدان البشري فهماً وسلوكاً. والدين يقوم على الصدق، وتطابق الداخل مع الخارج. ولا توجد أصلاً دولة دينية بل دولة مدنية. الدين كالثقافة والعلم أحد مكوناتها.
&