إياد أبو شقرا &


تابعت كما تابع غيري كلام الرئيس الأميركي باراك أوباما، يوم أول من أمس في البيت الأبيض، تعليقًا على العمليات العسكرية التي ينفذها سلاح الجو الروسي في سوريا. وانتقاده رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التمييز بين «داعش» والمعارضة السورية المعتدلة، معتبرًا خطوة موسكو التصعيدية «وصفة كارثية العواقب».
ما استوقفني في كلام أوباما اللهجة التي كان يتكلم بها وأسلوبه التحليلي الهادئ البارد، الذي يبدو أكثر ملاءمة في حلقة لطلبة الدراسات العليا في جامعة هارفارد منه إلى كلام رئيس «قوة عظمى» يجب أن يكون لديه استراتيجية حقيقية في إحدى أكثر مناطق العالم توترًا والتهابًا.


لقد بدا أوباما محللاً أكاديميًا يجيد التشخيص، لكنه لا يكترث بطرح العلاج، ولدى التعامل مع حضور عسكري روسي في أزمة ملحّة متعدّدة الأوجه كالأزمة السورية، بدا أنه لا يعد لردة فعل عملية.
كلمة الرئيس الأميركي المستفيضة التي لا تسمن ولا تغني من جوع أعادت إلى ذاكرتي إحدى المرويّات الممتعة التي سمعتها من جدّي، رحمه الله، عن واقعة حدثت في لبنان عند احتدام أحد الانتخابات الرئاسية في النصف الأول من القرن العشرين بين الزعيمين المارونيين الشيخ بشارة الخوري زعيم الكتلة الدستورية وإميل إده زعيم الكتلة الوطنية. ولقد نجح كل منهما في تولّي الرئاسة في فترة ما.
في أيام الخير تلك، بعكس أيامنا البائسة هذه، كانت في لبنان رئاسة جمهورية وانتخابات رئاسية. وكان الأقطاب والساسة يتحاورون ويتجادلون ويحترم أحدهم الآخر. وكان المرحوم الرئيس رياض الصلح، رئيس الوزراء الأسبق وأحد نوابغ السياسة اللبنانية وأكثر أقطابها ذكاء وحلمًا وظرفًا وسرعة بديهة، يدير حملة انتخاب حليفه الشيخ بشارة. وعندما اتضح له أن نسب الأصوات متقاربة، وأن حسم المعركة قد يتوقّف على صوت أو اثنين من أصوات النواب جنّد كل إمكانياته لكسب كل صوت مهما كان الثمن. وكلّف أحد نواب الكتلة - وأذكر أن اسمه أمين - الذهاب إلى منطقة البقاع لإقناع الزعيم البقاعي إلياس طعمة السكاف، نائب زحلة وزعيم المدينة المسيحية الكاثوليكية الكبيرة، بالتصويت للشيخ بشارة.
وفعلاً، غادر النائب بيروت إلى مدينة زحلة للقاء السكاف وإقناعه. وبعد بضع ساعات عاد إلى منزل الرئيس الصلح الذي كان يغصّ بالنواب والمناصرين والصحافيين، فبادره الصلح: خير إن شاء الله يا أمين بك؟ ماذا حصل معك؟ فبدأ النائب السرد على طريقة أوباما.


فقال: والله، يا رياض بك، اجتمعت بإلياس بك، وقلت له إن الشيخ بشارة رجل وطني وعظيم، وإن البلد بحاجة إلى أمثاله. وقلت له إن الشيخ بشارة صديقٌ صدوقٌ ورجل مواقف شهم.. لا يخشى في الحق لومة لائم..
فقاطعه رياض الصلح: برافو، يا أمين بك، وماذا بعد؟
وأكمل النائب: وقلت له أيضًا إن الشيخ بشارة محترمٌ محليًا وعربيًا ومقبول دوليًا.. كما أنه محبوب من كل اللبنانيين من كل الطوائف والمناطق و...
ومجدّدًا قاطعه رياض الصلح: شكرًا يا أمين، كلامك دُرر، ولكن ماذا بعد؟
واستطرد النائب: وقلت له إن الشيخ بشارة وفيّ ومخلصٌ لا ينسى من يقفون معه، وهو أيضًا مجرّب في المُلمّات وصاحب خبرة سياسية وقانونية و...


وهنا طفح الكيل برياض الصلح فهتف: يا أمين بك.. فهمنا ما قلت له، لكن يهمّني أن أعرف ماذا قال إلياس السكاف؟
فأجاب النائب: والله يا رياض بك، قال لي إنه سبق له التعهّد لإميل إده بتأييده ولن يغيّر موقفه.
عندها ابتسم رياض الصلح بمرارة، وقال: كثر الله خيرك يا أمين بك، يللا يا شباب لنذهب ونهنئ إميل إده!


هذه الواقعة تصدق تمامًا على حالة سوريا اليوم بين كلام أوباما المنمّق وتحليله البليغ الذي يأتي بعد أربع سنوات ونصف السنة من البيانات والتصريحات والتهديدات والاستنكارات، وفعل بوتين على الأرض.. «فيتوهات» في مجلس الأمن، وجسرًا جويًا لنقل السلاح، وتحالفًا نوويًا مع إيران، وأخيرًا.. مشاركة مباشرة في القصف الجوي لدعم نظام الأسد والميليشيات الإيرانية مستهدفًا مواقع سيطرة المعارضة المعتدلة.
حتى وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون أعلن بالأمس أن «خمسة في المائة فقط من الغارات الجوية الروسية استهدفت مواقع (داعش)، بينما انصب الباقي على مواقع المعارضة المعتدلة»، ومنها مواقع يحاصرها النظام منذ سنوات في ريف حمص الشمالي الغربي، وذلك لتسهيل مهمة النظام باستعادتها. وتابع الوزير فالون أن الاستخبارات البريطانية لاحظت أن معظم الغارات «قتلت مدنيين».
معلوم أن موسكو لم تتردد مطلقًا في القول إنها تنسّق مهامها مع قوات النظام «الشرعي» وتستقي منه بعض معلوماتها الميدانية، وهذا بعد إعلان بوتين نفسه «أن لا فرق بين داعش وأي من فصائل المعارضة المسلحة». وبالأمس، أيضًا بينما كان الرئيس الأميركي يشخّص ويحاضر ويحلّل، كانت مصادر حكومية في موسكو تعلن أن القصف سيستمر لأربعة أشهر!
طبعًا، ثمّة من يقول إن لدى واشنطن استراتيجية تنتظر الوقت الملائم لإعلانها أو البدء بتطبيقها. كذلك، سمعت وقرأت أن واشنطن تسعى لتوريط موسكو في مستنقع الشرق الأوسط وتحويله إلى «أفغانستان ثانية» لبوتين هذه المرة. وقد يكون مثل هذا الكلام صحيحًا، لأن سياسة التغافل الحالية أسوأ وأغبى من أن تصدق، بدليل الاعتراف المذهل من الجنرال لويد أوستن، قائد القيادة الوسطى الأميركية، بأن استثمار 500 مليون دولار في تأهيل مقاتلين من المعارضة السورية المعتدلة أثمر تأهيل أربعة أو خمسة مقاتلين فقط!
وعلى مسافة ليست بعيدة في «لا معقولية» المقاربة الأميركية «اكتشاف» الرئيس أوباما أنه «لولا الدعم الروسي والإيراني لكان نظام الأسد قد سقط»!
بعد أربع سنوات ونصف السنة، مؤسف جدًا أن يجد الرئيس الأميركي حاجة، أصلاً، لقول مثل هذا الكلام البديهي.. وهو الذي عقد للتو صفقة نووية مع ملالي إيران.
وأما عن توريط بوتين بـ«أفغانستان ثانية»، فمن المستحسن تذكير واشنطن بما أنتجته لها وللعالم الـ«أفغانستان الأولى»!

&