سمير عطا الله
&

كلما شعرت العامة بفداحة أمورها ورداءة أحوالها تساءلت صوتًا واحدًا: أين المثقفون؟ ويقول كتّابنا إن المثقفين نوعان، واحد هو مثقف السلطة، وآخر مثقف الخوف. واسمحوا لي أن أصحّح لأن التعريف الغربي للمثقف هو الرجل المعارض للسلطة دومًا. أما مثقف السلطة فلم يظهر أو يُعرَّف أو يُقبل إلا في الدول التي يُعيّن فيها بموجب قرار من الحزب، أو اللجان، أو دائرة الأمن السياسي.

قوبل المثقف العربي بتخاذل من المثقفين. أكثريتهم فضلت مفوض الحزب وشاعره وأمين المهرجانات فيه. هذه مناخات تكثر فيها الألقاب والأطناب وتنعدم فيها الثقافة. في كتابه «العرب والسياسة.. أين الخلل» يعود الدكتور محمد جابر الأنصاري إلى زمن الإمبراطورية العربية ليقول إن العمل السياسي اضطهد منذ ذلك الوقت، فكيف بالعمل الثقافي؟ النظام العربي حوَّل السياسي والمثقف إلى أجير له رتبة وراتب يعلوان بعلو إتقانه للولاء الأعمى والتنكيل الخسيس. ومتى وجد الضحية دعمًا من جمهور الثقافة؟ ومن تجرأ على أن يرسل إليه بيضة مسلوقة أو بطاقة معايدة في السجن؟

عندما نتحدث عن الثقافة في فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا، نتحدث عن جمهور الثقافة لا عن أعلامها. عن المقاهي التي ولدت في نقاشاتها أهم الحركات الفكرية وحتى الأكاديمية. كل مقهى ارتبط اسمه باسم فيلسوف، أو مجموعة من الفلاسفة والمفكرين.

من السهل، كالعادة، اتهام المثقفين. نريد منهم أن يُسجنوا ويُقتلوا ويُشرَّدوا وتُضطهد عائلاتهم، أما دورنا فلا يزيد على تصفيق هنا أو أسى هناك. وبعدها نمضي ثلث قرن في قبول رجل قاحل في زعامة الحركة الثقافية. ولا يعود المكلف يكتفي ببنود مرسوم التعيين، بل يصر أيضًا على التأليف والتوقيع. ولا تبقى بعد ذلك مقاييس أو نسب. وعندما تحلّ المأساة، نبحث عن المفكر والمثقف فلا نراه إلا في ضباب الحياة، ولا نسمعه إلا من ظلام السجون، أما هو فلا يرانا في أي مكان، لا قبل ولا بعد.

الذي أدّى إلى كل ما نراه من مستنقعات جهل ودماء ليس سببه قلة المثقفين الشجعان، بل ضحالة الجمهور الذي لا يرى في الثقافة سوى ترف يُستحضر عند الحاجة. وصحفنا مليئة بالأدعياء الذين يحشون أفكار الناس كل يوم ببقايا الهوام ونثار الخشب البالي الذي لم نستطع أن نصنع منه مرة مركب النجاة. هذا الخشب هو لمراكب الغرق وضحالة الاجترار.