&تركي التركي &

"تسبب الكآبة والقلق بؤسا للناس أكثر مما تسبب الأمراض الجسدية أو الفقر أو البطالة". إذ تشير الإحصائيات العالمية إلى أن ما يقرب المليون شخص يموتون انتحارا كل عام. ما يجعل الانتحار عاشر الأسباب الرئيسية للوفاة في العالم. كما أن من لديهم الاستعداد النفسي للانتحار يقدرون بأضعاف هذا العدد. وهنا يتبادر للذهن سؤال يستحق البحث الجاد من قبل المختصين والدول. ما نصيب "داعش" من هؤلاء الانتحاريين الجاهزين؟ وقبل ذلك ماذا يحتاج "داعش" ليقنع المسلمين أو من يريد دعوتهم للإسلام بشرعية الانتحار؟ يبدو أن كل ما كان يحتاج إليه التنظيم هو ابتكار "الانتحار الحلال" على غرار منتجات تجارية توظف شعارات دينية لاقت رواجا في العالمين الإسلامي والغربي.

وباء صامت

لم يعد خافيا ارتباط كثير من المنضمين لـ"داعش" بأمراض عصبية نفسية مسجلة بشكل رسمي. وهو ما كشفه كثير من السجلات الغربية الرسمية لعدد لا بأس به من مواطنيها بعد العودة لحوادث سجلت بحقهم من أحداث جنائية وخلافه. ووفقا لمراقبين فلو كان للدول العربية سجلات شبيهة لأمكن التثبت من حالات مشابهة.

الميل للانتحار وباء صامت: "لأن كثيرا من الناس حول العالم يموتون بسبب الانتحار، مثلما يموتون من الجرائم والحروب مجتمعة". ففي عام 2000 قتل 815 ألف شخص أنفسهم بأيديهم. وداعش خلافا لكثير من التنظيمات استطاع استقطاب وتجنيد كثير من "الانتحاريين" ما يفوق كثيرا من التنظيمات الإرهابية السابقة. كما أنه نوّع استقطابه فلم يعد يشمل جنسية بعينها أو ثقافة محددة ما ينفي كثيرا من الدعاوى التي تربط الإرهاب بجنس دون غيره أو ثقافة دون أخرى.

وحسب منظمة الصحة العالمية، فإن الأمراض النفسية تشكل 38 في المائة من كل أشكال الصحة المعتلة في الدول ذات الدخل العالي في العالم. ومع ذلك، ربما كان الإحساس بالحرج من الأمراض العقلية هو السبب في تجاهل الأسر والأنظمة الصحية قسوة تأثير هذه الأمراض على الناس.

شرعنة الانتحار

وما يفعله "داعش" لاستقطاب هذا العدد الهائل ممن يحملون الفكر الانتحاري يكمن في شرعنة هذا الانتحار وإضفاء قيمة عليه ما يوهم المقدم على الانتحار بقدرة خارقة يتجاوز بها الضعف والنقص الذي يعيشه، ولو لأيام معدودة أو لحظات. فوفقا لمختصين هناك عدد من الحالات النفسية التي تؤدي إلى زيادة احتمال الانتحار، ومنها: اليأس، وفقدان المتعة في الحياة، والاكتئاب والقلق. كما أن القدرة المحدودة على حل المشاكل، وفقدان القدرات التي اعتادها الشخص، وضعف السيطرة على الانفعالات تلعب دورا في ذلك أيضا.


وهنا يبرز الدور الأيديولوجي أو "غسل الدماغ" بحسب التعبير الدارج. فالفكر الانتحاري في تعريفه النفسي هو الذي يهتم بأفكار الانهماك غير الطبيعي في الموت. ويختلف مدى الفكر الانتحاري بشكل كبير بين أفكار عابرة إلى أفكار شاملة إلى تخطيط مفصل إلى لعب الأدوار. لتتفنن مثل هذه التنظيمات الإرهابية في اختيار الدور المناسب لمن تستهدفهم. فعوضا عن الأفكار الدارجة (كالوقوف على كرسي وتعليق نفسه بحبل استعدادا للشنق) يمكن لهذه التنظيمات إقناع المستهدف بموت يحمل قيمة شرعية أو بعدا عقائديا من وجهة نظر هذه الجماعات وما تقوم عليه أساسا من أفكار منحرفة.

ولعل متوسط الأعمار هو ما يؤكد أيضا ارتباط "الفكر الانتحاري" بمفهومه النفسي بمن تستقطبهم هذه الجماعات، إذ إن الفكر الانتحاري بالعموم يسجل غالبا ثلاث حالات ضمن خمس (3/5) لمن يتراوح سنهم بين 15 و24 سنة. وهذه الفئة العمرية هي تماما ما تستهدفه هذه المنظمات وهم أيضا من تنجح في تجنيدهم تفجيرا وتفخيخا.

ويبقى الانتحار نفسيا هو ذاته باختلاف أشكاله ومسبباته بوصفه تعبيرا عن يأس وآلام أو شعور بالعجز وتارة شعور بالغضب والرغبة في الانتقام من الظالم العنيف. أما العوامل المؤثرة، فتشير الدراسات المختصة إلى غياب النشاط الثقافي ورداءة أو غياب النشاطات الترفيهية. وقد يلجأ البعض للانتحار هربا من التسلط أو الإجحاف. كما أن وجود سجل من الاعتداء الجنسي في مرحلة الطفولة والوقت الذي يقضيه الشخص في دور الرعاية يمثلان عوامل خطورة كذلك. ويُعتقد أن الاعتداء الجنسي يسهم بنحو 20 في المائة من الخطورة الكلية.

عدوى "داعش"

يذكر أنّ محاولات الانتحار، سواء كانت فعلا فرديا أو على الطريقة الداعشية ليست فعلا بسيطا يمسّ مرتكبيه، بل هو صدمة عميقة تمسّ كلّ أفراد الأسرة والمحيط، إذ تشير بعض الدراسات إلى أنّ الإرهاب باعتباره اضطرابا اجتماعيا حادا يدمّر التوازن الاقتصادي والثّقافي والنفسي، وقد يخلّف صدمة نفسيّة جماعيّة تدسّ سمومها في المجتمع، ومن أهمّ أعراضها نقص الثقة في الذات وفي المحيط، والعنف داخل الأسرة.

إلى ذلك تلعب وسائل الإعلام، بما فيها الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي دورا مهما. فجدير بالذكر أن الطريقة التي تستخدمها في تصوير العلمليات الانتحارية، أو ما يسبقها من عمليات إرهابية و"رسائل انتحار". قد يكون لها أثر سلبي مع التغطية على نطاق كبير وبارز ومتكرر، وعلى نحو يمجد أو يضفي جوا عاطفيا على حالة الانتحار، فيكون لها بالتالي أكبر الأثر على الأشخاص المهيئين لمثل هذه الأمراض.

وتكون هذه الخطورة أكبر لدى المراهقين الذين قد يضفون طابعا عاطفيا على الموت. ويبدو أنه بينما تتميز وسائل الإعلام الإخبارية بتأثير كبير، فإن تأثير وسائل الإعلام الجديد باتت أكثر تأثيرا. لذلك عندما تتبع وسائل الإعلام المبادئ التوجيهية المناسبة للإعلام، فإنه يمكن خفض احتمال الانتحار. ومع ذلك، فإن الحصول على صفقة في هذا المجال يمكن أن يكون صعبا خاصة على المدى الطويل.