عادل درويش


عرضنا لسياسات بريطانيا، لا نقصد منها فرجة القراء العرب على الحديقة السياسية في الغرب بغرض التشفي في بلد غربي، أو الإعجاب، أو الحسد، بل لدراسة نماذج مشابهة في زمن تتتابع فيه ديناميكية الأحداث في بلدان انتفاضات 2011 ورغبة التيارات الإصلاحية في التغير والانتقال إلى ديمقراطية ناضجة.


خمسة بلدان، ثلاثة انتهى فيها دور الدولة أو انهارت الدولة نفسها، والاثنان الباقيان تراجعا عن الشكل النموذجي من الديمقراطية البرلمانية التي حلمت بها طلائع من ملأوا الميادين والشوارع، تراجع واضح في ثقافة المجتمع نفسها عما كانت عليه قبل أربعة أو خمسة عقود.


مع اعتبار الفوارق الثقافية، فهناك تشابه مع التراجع في أعرق الديمقراطيات مثلما ظهر في المؤتمر السنوي لحزب العمال المعارض (الحزب الأكبر بحجم العضوية).
انتخب حزب العمال زعيمًا لم يتوقع كثيرون نجاحه (راجع مقالنا 16 أغسطس/ آب). زعيم قادم من بعيد، لا مسافة جغرافية بل زمنية، عودة أربعين عاما إلى الوراء ببرنامج سياسي أثار نكات فناني المونولوغست أكثر مما أثار أقلام المعلقين السياسيين.


جيرمي كوربن اختيار اليسار المتطرف من الاتحادات العمالية والفوضويين ومحترفي التظاهرات والاحتجاجات (من العواطلية الذين لا عمل لهم بل يتعيشون من الإعانة الاجتماعية أو ثروة الأسرة) جماعات تتأرجح على حافة الحياة السياسية المنظمة. جماعات لم تطمح أبدا في مناصب سياسة قادرة على التغيير، كعضوية البرلمان) شعاراتها خيالية كالثورة الدائمة وهدم مؤسسات المجتمع كالأسرة ونظام الملكية الخاصة والدين والبرلمان (دون تقديم البديل). جماعات لا ترشح أعضاءها للانتخابات وتفضل المشاركة في الاحتجاجات والتظاهرات. بضع مرات تقدمت التيارات بمرشحين في الانتخابات فحصلوا على أعداد مضحكة من الأصوات فبرامجهم تركز على قضايا كزواج المثليين، وتحرير الحيوانات من سجون المختبرات الطبية، واستبدال محطات الطاقة بطواحين هواء، فلم يمنحهم أحد أصواته كي يفقد مصدر رزقه، وظلت الجماعات «تحترف» الاحتجاج.


المتابع لجدل شباب الثورة وثوار الميدان وما شابههم في بلدان ثورات 2011 يتعرف على برامج الجماعات المشابهة في بريطانيا.


محترفو الاحتجاجات دخلوا أفواجا في حزب العمال (رسم العضوية بثلاثة جنيهات، ثمن قدح كابوتشينو) ومنح قرابة نصف مليون أصواتهم للمستر كوربن.


في أول خطبة كزعيم في المؤتمر السنوي وجدت هذه الجماعات نفسها حروفًا في كلماته وفي الصفوف الأولى بعد أن قضت سنوات تقف على باب قاعة المؤتمر تقذف النواب المشاركين بتهمة «خيانة الطبقة العاملة». طرح كوربن مشاريع سياسات من شعارات الاحتجاج لا من الواقع اليومي للناس.


خطبة الزعيم الجديد كانت آلة زمن عادت أربعة عقود إلى الإضرابات العمالية والقطاع العام والتأميمات.


أيام بعد حضوره الاحتفال بذكري شهداء الحرب العالمية الثانية بثياب رثة ورفضه ترديد النشيد القومي (وهو بديل انتخابي لرئيس الحكومة) أدان في خطبته الإرث الإمبراطوري لبريطانيا بدلا من الافتخار بوطنه بين الأمم (ذكرني ذلك بكلمة محمد مرسي الذي أسقطته الملايين يوم تنصيبه، فكان أول رئيس في تاريخ مصر لا يتفاخر بحضارة أقدم دولة في العالم)، يريد تأميم المواصلات وشركات الطاقة ومصادرة ثروات وممتلكات الأغنياء وفرض ضرائب جديدة على شركات كبرى كالهواتف الجوالة، وستاربكس و«غوغل» وهي توظف مئات الآلاف في بريطانيا سيشردون من عملهم إذا سحبت الاستثمارات. برنامجه لا يلقى موافقة زملائه من مجلس وزراء حكومة الظل (مقابل كل وزير هناك وزير بديل في المعارضة يعرف بحكومة الظل كبديل للحكومة إذا أراد الشعب استبدالها في الانتخابات المقبلة).


برنامجه للإسكان هو إصدار قوانين جديدة بغرض مضايقة أصحاب العقارات (بحجة حماية المستأجر) لقيت معارضة مرشح الحزب نفسه لمنصب عمدة العاصمة لندن. مدينة يدخلها ضرائبيًا وفي حركة التجارة عشرات المليارات سنويا من سوق العقار (مجموع رسم تمغة شراء العقار في لندن وحدها أدخل الخزانة قرابة ستة مليارات دولار في العام الماضي). إصدار قوانين المستر كوربن سيدفع المستثمر للهرب من لندن وبأصحاب العقارات إلى رفض تأجيرها مما يزيد من أزمة الإسكان.


المشكلة الأكبر أن مؤتمر الحزب الذي يحدد فيه البرنامج السياسي لم يناقش قضية الدفاع، وبالتحديد الردع النووي المعروف بنظام ترايدنت (غواصات بريطانية تحمل سلاح الردع النووي بنظرية التدمير المتبادل مما يجعل من يهدد بريطانيا يتردد في الهجوم) خشية عدم الاتفاق عليه. وفي مقابلة إذاعية قال زعيم المعارضة ورئيس حكومة الظل إنه «لن يضغط زر الإطلاق النووي في أي حال من الأحوال».. وقضية أحادية نزع السلاح كانت سببًا رئيسيًا في خسارة العمال انتخابات عام 1992 بعد أن كانوا متقدمين في استطلاعات الرأي.


أغرق كوربن نفسه في مشكلة أعمق هي إثارة مخاوف الاتحادات العمالية التي دعمته وساعدته على كسب زعامة الحزب باعتباره أكثر مرشحي اليسار التزامًا بالنهج الماركسي الساعي لفرض حكم البروليتاريا (الطبقة العاملة).


في غمرة حماس كوربن نسي أو تناسي أن بين عضوية الاتحادات عشرات الآلاف من العاملين في ورش ومصانع يلتزم بقاء دوران عجلات إنتاجها بغواصات ترايدنت التي تحمل سلاح الردع النووي، وعشرات آلاف آخرين عاملين في صناعات وخدمات تكميلية كورش الصيانة وأحواض السفن وميناء الرسو ومصانع إنتاج قطع الغيار والخدمات الإضافية كالمطاعم والمواصلات وأماكن الترفيه والإسكان. أي أن إلغاء السلاح النووي المستقل قد يروق سياسيًا للنشطاء وأنصار السلام من أبناء الطبقات الوسطى والمثقفين الميسورين لكنه يعني خراب بيوت قرابة ربع مليون من أبناء الطبقات العاملة. طبقات السياسة بالنسبة لهم ليست الصراع مع روسيا، أو ردع «داعش»، أو الاحتباس الحراري أو حقوق حيوانات التجارب المعملية، أو إيجابية أو سلبية الإرث الإمبراطوري، بل ببساطة الحفاظ على لقمة العيش. وقد تداخلت مع الأخيرة عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي التي تدفع بمئات الآلاف من المهاجرين للعمل بأجور رخيصة ويخربون بيت الصنايعية والعاملين البريطانيين..
الدرس هنا لبلدان «الثورات» العربية الساعية للإصلاح والبناء الديمقراطي. شباب الثورة والمثقفون والإصلاحيون يشغلون أنفسهم بجدل سياسي، لكن تجاهلهم للواقع الاقتصادي للناس (الترجمة باللغة البسيطة لقمة العيش وهموم الناس العاديين وهم مجرد صواميل ميكروسكوبية في عجلة الاقتصاد القومي) قد يكلفهم حلمهم السياسي. الجماهير الكادحة تفضل الأمن الاقتصادي على الديمقراطية (ودرس انتخاب ألمانيا لهتلر وعصابته السياسية بسبب أزمة اقتصادية طاحنة حاضر أمامنا).


استمرار كوربن في برنامجه الاقتصادي يعني ضمان خسارة مدمرة لحزب العمال في انتخابات 2020 (إلا إذا استبدله الحزب بزعيم يفهم الواقع الاجتماعي).. ومصير مسيرات ثورات 2011 سيكون مشابها لأزمة حزب العمال بتجاهلهم اقتصادات الواقع الاجتماعي.
&