& زهير الحارثي

هناك من يرى بأن العقلية العربية عادة ما تغرق في التناقض الحاد لا سيما حين مواجهتها الحقيقة على تجلياتها. وجسدتها الفلسفة بقولها "ان الحقيقة في علاقتها بالتجربة والظواهر الحسية، بمعنى أن المدرك الحسي يتحول في الذهن إلى أفكار، فتصبح الحقيقة هي تطابق الفكر للواقع".

ولعل ما يميز الفلسفة عند استخدامها هو تبرير او تفسير لما هو قائم، ولذا تجدها مرتبطة بأي طرح فكري يسعى للتحليل وسبر اغوار ما نعيشه من احداث، فعالمها باب للتأمل والتساؤل يدفع باتجاه توليد الأفكار وتوسيع المدارك.

الارتقاء بالمجتمع علماً ووعياً وذائقة ينطلق من مشروع فكري تنويري يحترم العقل والعلم ويفك الاشتباك ما بين المعتقدات والعادات لمواجهة الأيديولوجيات المتصارعة والتيارات المتناحرة ما يساهم بردم الهوة الحضارية مع الآخر.
وبطبيعة الحال تجذبنا عوالم كبارها، منذ عهد سقراط وكانط وهيجل ومرورا بابن رشد والكندي وانتهاء بريتشارد روتي وزكي نجيب محمود وعبدالرحمن بدوي وفوكوياما، بتعدد مدارسهم وتنوع مناهجهم بصرف النظر عن اتفاقنا او رفضنا للنتيجة التي يصل اليها هذا او ذاك، فالمسألة هنا لا تتعلق باستنتاجاتهم من حيث الصحة او الخطأ، بقدر ما انها تساهم في تفتق الذهن لتجعل التجربة والملاحظة اساسا لتفسير الاشياء، فالظاهرة لا يمكن تفسيرها الا بربط العلة بالمعلول، كما المثل العليا لدى افلاطون، والفكر المطلق عند هيجل حيث انتهى بهما المطاف عند قانون العلم.

على أي حال لا نريد هنا الولوج في عالم المصطلحات والتنظير، بقدر ما اننا ننزع الى الوصول لمفهوم الحقيقة لا سيما عندما نطرح قضايانا او نريد الحكم على الاحداث الجارية وتداعياتها، فاختلافنا على الحقيقة اساسه اختلاف الناس فيما بينهم، والتحولات التي نشهدها ما هي في واقع الامر سوى نتيجة للفعل الإنساني.

ولمزيد من التوضيح، عليك بتأمل ردود الفعل الانسانية ازاء قضية جدلية معينة، حيث تلحظ تعدد وتنوع الآراء بشأنها إيجابا ام سلبا وفق تدرج نسبي، غير ان الرأي الذي يهمنا هو الذي يقرأ الحدث او يحلل المسألة بحياد وبتجرد، اي أنها قراءة عقلية علمية معرفية، فالغاية إذن هي إدراك حقائق الاشياء كما هي وليست كما نريد لها ان تكون، وهذا هو الفارق بين القراءة العقلية والقراءة الوجدانية، فالإنسان المحايد الطبيعي ينشد معرفة الحقيقة ويتوق اليها بغض النظر عن محتواها ونتيجتها.

على ان حديثنا يقتصر على منهجية التفكير لدى العقل العربي، فهو يميل الى التحليل والتركيب والمراجعة بعد انطلاقه من لحظة الحدس، بمعنى انه عندما تجسد الحقيقة امامه وبواسطة عقله فانه قد يتملص منها، مع ان نفيه لا يلغي وجودها، فالحقيقة هي معيار ذاتها، فالحقيقة هنا تعني الصواب ونفيها هو الكذب ومعيار صدقها هو الواقع. ولذلك فرفض القبول بحقيقة الأشياء يؤكد ان ثمة علة في جوف العقل العربي، فهل هي من شوائب موروثه الثقافي؟

على الأرجح نعم لأسباب يطول شرحها. وما يدعم هذا الرأي ما يدور على الخارطة العربية في وقتنا الحاضر، فالمشهد تنهشه الأيديولوجيا المتطرفة بكافة صورها المتمثلة بالتطرف الديني والفتنة الطائفية والاستبداد السياسي والتمييز العنصري.

ومع ذلك ثمة مشروعات فكرية طفت على السطح لقامات اثرت الساحة. كان منهم من ينادي باستيعاب الفارق المهول بين العرب والغرب من حيث المسافة التاريخية وكيفية استيعابها، وشددوا بأن خارطة الطريق لتلك الرؤية وردم الهوة الشاسعة هو انه لابد ان تكون متزامنة بتنوير فكري وتطوير تقني وإصلاح للخطاب الديني ليكون متسقا مع التحولات المجتمعية، مدللين بذلك على مسار النهضة الاوروبية التي استطاعت ان تنتقل للديمقراطية بالتمرد على عقلية القرون الوسطى آنذاك. في حين ان آخرين حيث يعتقد هؤلاء المفكرون ان المعضلة تتعلق بنقد وتكوين وبنية العقل العربي على اعتبار انه منتج هذه الثقافة التي هي وفق رؤيتهم المهيمنة على وعي افراد المجتمع.

وبالمقابل تجد أن المنتج الحضاري في أوروبا لم يأت من العدم، بل جاء نتيجة لإرهاصات وطروحات ونظريات فلاسفة ومفكري عصر الأنوار من فرنسيين وانجليز والذين أسسوا لحركة فكرية نقدية في القرن الثامن عشر مهدت لبناء تصور جديد للمجتمع يقوم على الديمقراطية والحرية والمساواة، ونادت بالقطيعة المعرفية وفك الاشتباك بنفوذ الكنيسة والاستناد على العقل، ما دفعها لتهيئة الظروف لمناخ التغيير، وهو ما أدى فعلا إلى تغيير مسار التاريخ بطروحاتهم، كنظريات جان جاك روسو، وجون لوك في العقد الاجتماعي وديفيد هيوم في علم الإنسان مقابل اللاهوت، ونقد فولتير للتعصب الديني والسياسي وافكار مونتسكيو المناهض للأنظمة الاستبدادية.

صحيح ان الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية عبر سايكس وبيكو، جزأتا العرب في القرن الماضي إلى اراض مكبلة بقيود وثقافات محلية الا انه بعد رحيل الاستعمار، نشأت أنظمة وطنية وأطلقت شعارات مؤثرة آنذاك لارتباطها بالأرض والحرية والاستقلال، لكنها ما لبثت أن عادت إلى ممارسة القمع، بمجيء أنظمة عسكرية كرست الاستبداد والدكتاتورية وان كنا قد تخلصنا من الاستعمار إلا أننا ارتهنا له مرة أخرى وبصيغ وأشكال مختلفة.

غير ان الواقع يشير إلى ان العرب هم من يتحملون سبب إخفاقاتهم غير غافلين بالطبع التأثير الخارجي الذي ساهم بدور ثانوي، والسبب الرئيس وراء ذلك هو استفحال الأيديولوجيا التي قد تفسر سبب هذا النكوص بدليل ان الشعوب العربية مثلا خلال سبعين سنة لم تعد تتحمس لأي ارتباط أيديولوجي رغم جاذبيتها، فما يقوله القوميون والبعثيون والشيوعيون والاسلامويون من شعارات وطروحات لا تختلف عن الفاشية أو فلسفة النازية، لارتباطها بالدكتاتورية.

صفوة القول: الارتقاء بالمجتمع علماً ووعياً وذائقة ينطلق من مشروع فكري تنويري يحترم العقل والعلم ويفك الاشتباك ما بين المعتقدات والعادات لمواجهة الأيديولوجيات المتصارعة والتيارات المتناحرة ما يساهم بردم الهوة الحضارية مع الآخر