عبد المنعم سعيد


وكأن خريطة الصراع في الشرق الأوسط لم يعد فيها ما يكفيها، وكأن ما سقط فيها من ضحايا وجرحى ولاجئين لم يعد كافيا، وكأن كأس الألم لم تطفح بما فيها من دماء، حتى جاءت روسيا بطائراتها وقواتها لكي تتدخل في جزء من الأراضي السورية تنطلق منه، لكي تضرب ذات اليمين وذات اليسار. الوجود الروسي في سوريا بأشكاله المختلفة، يأتي في وقت أصبحت فيه موسكو ليس تلك التي عرفناها بعد انتهاء الحرب الباردة من انسحاب وتنازل وتراجع، وإنما هي دولة تبحث عن الامتداد والتأكيد على أنها موجودة في خريطة القوى العظمى، سواء كانت شيوعية أو غير ذلك. البداية كانت في الجوار القريب، في جورجيا، ثم في القرم، ومؤخرا في أوكرانيا، واليوم جاءت الإضافة الجديدة عبر البحر الأبيض المتوسط في سوريا هذه المرة. الهدف المعلن هو المشاركة في الحرب ضد «داعش»، ولكن الطريق إلى الهدف يمر بهدفين آخرين: أولهما إنقاذ النظام السوري، وثانيهما تدمير كل قوى المعارضة الأخرى.


القرار الروسي كان مفاجئا، فلم يسبقه اقتراب من التحالف الدولي والإقليمي الذي يهاجم «داعش» بالفعل. الغريب أن التنسيق الوحيد الذي أجرته موسكو جرى مع إسرائيل عندما قام نتنياهو بزيارتها، بهدف وضع قواعد للعمل والاشتباك بحيث لا تتناقض العمليات الروسية على الأرض السورية مع تلك الإسرائيلية. إسرائيل أهدافها واضحة، فهي سعيدة لانهيار القوة العسكرية السورية، التي تراجعت قدراتها من 300 ألف مقاتل إلى ما بين 80 ومائة ألف. ولكنها من ناحية أخرى لا تريد، لقوات «داعش» أو حزب الله أن ترث القدرات العسكرية السورية. من هنا فإن إشارتها في موسكو كانت خلق آلية للاتصال والتنسيق، فإسرائيل لن تسمح لحزب الله بأن يحصل على صواريخ أو أسلحة كيماوية، وهي لا تريد لطلعاتها الجوية وصواريخها أن تتقاطع دون قصد مع تلك الروسية. روسيا من جانبها أيضا لا تريد هذا التقاطع، وهي تعرف أن نتيجة الحرب في سوريا أيا كانت لن تبقي كثيرا من القدرة العسكرية لبشار الأسد لكي يكون مصدر إزعاج لإسرائيل. وهي كذلك تريد أن تقدم لهذه الأخيرة بعضا من التقدير على موقفها في الأمم المتحدة، عندما امتنعت عن التصويت في القرار الخاص بأوكرانيا، الذي تحمست له الولايات المتحدة الحليف الكبير لإسرائيل.


هل تغامر موسكو بمثل هذا التحرك فتغرق في المستنقع السوري، كما غرقت منذ عقود في المستنقع الأفغاني؟ أم أن المسألة جد مختلفة هذه المرة، فهي ليست وحدها في مسرح العمليات العسكرية، بل هناك قوى مختلفة كلها مضادة لـ«داعش»، ولكن كثيرة منها مضادة لبشار الأسد وحكم البعث، الذي أخد سوريا كلها إلى هذا الجحيم الذي تعيش فيه. وهكذا فإن نظام بشار هو حجر الزاوية في الاستراتيجية الروسية، فالحرب ضد «داعش» جزء من عملية إنقاذ بشار، أما البقية الباقية فهي تدمير كل أنواع المعارضة الأخرى لحكمه. ولم تكن هناك صدفة أن أولى العمليات الجوية الروسية، جرت ضد المعارضة السورية غير الداعشية، ولكن ذلك يخلق معضلة كبرى هي أن القوات الروسية التي دخلت سوريا لا تستطيع أن تحارب المعارضة، و«داعش» في الوقت نفسه. صحيح أن هناك حلفاء مثل إيران وحزب الله، ولكن هناك تقاطعات كبيرة مع التحالف الدولي والإقليمي، وتركيا، لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تفعله «النيران الصديقة» في الحرب. هل تطرق اجتماع أوباما وبوتين في نيويورك إلى تنسيق مشابه لذلك الذي حدث مع إسرائيل، أم أن الاجتماع اكتفى بتبادل الشكوى حول السلوك المنفرد الذي تقوم به موسكو وواشنطن؟!
هل يقلب الدخول الروسي إلى ميدان الحرب في سوريا، التوازن الاستراتيجي الحالي، بحيث يستعيد بشار الأسد المبادرة مرة أخرى؟ الحقيقة هي أن سوريا «البعثية» لم تعد موجودة، ليس فقط لأن سوريا فقدت 240 ألفا من القتلى، أو أنها فقدت أكثر من مليون من الجرحى، أو أن نصف عدد السكان صار ما بين نازح ولاجئ، وإنما لأن الصراعات المذهبية والطائفية استحكمت بشدة، وصارت في كل الأحوال متبلورة حول «هويات» سياسية متباينة. من الناحية العسكرية البحتة، فإن ما وضعته روسيا على الأرض السورية لا يكفي التعامل مع كل الخصوم، كما أن إنقاذ بشار وجيشه، أو بقايا جيشه، يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك. ما يمكن قوله هو أن الأهداف الروسية المشار إليها، لا يمكن تحقيقها إلا بمزيد من القوات والطائرات وسفن الحماية البحرية، وهذا سلاح ذو حدين، فهي من ناحية قد تجعل بشار أكثر قسوة، ومن ناحية أخرى فإنها ستقدم أهدافا كثيرة لكل المعادين له.


لقد تغيرت سوريا ومن قبلها العراق ولبنان، ولم تعد إسرائيل وفلسطين كما كانا في ظل علاقات اتفاقيات أوسلو، باختصار انقلب الهلال الخصيب رأسا على عقب، ودخل مرحلة من الخسوف التي جعلت بعضنا يستعيد أيام «سايكس بيكو»، ولكن هذه المرة بإضافات روسية جديدة إلى كل الألوان الداعشية والقاعدية، ومن يصدق، البعثية أو بقاياها أيضا. الغائب من هذه اللوحة التعيسة أفكارا وأعمالا تواجه الفوضى الذائعة من داخل المنطقة وليس من خارجها. ما طرحه بوتين، وكأنه يقدم مبادرة لإنقاذ سوريا ومن ورائها الهلال الخصيب كله لا يبدو مقنعا، بينما روسيا نفسها تحت العقاب الغربي بسبب سلوكها في أوكرانيا، وعملتها انهارت بنسبة 44 في المائة خلال الفترة الماضية، وأسعار النفط التي تعتمد عليه موسكو أكثر من بقية الدول النفطية تراجعت بشدة، وحتى الاحتياطيات النقدية الروسية تتراجع بسرعة مخيفة. محاولة لعب دور المنقذ في مثل هذه الظروف لا يبدو مقنعا، خاصة مع العزلة الروسية في المجال الدولي ومع دول الإقليم أيضا التي لها وجود أو آخر على الساحة السورية.


ماذا سوف يكون عليه رد الفعل الدولي للتدخل الروسي لسوريا؟ البداية كانت بالاحتجاج ليس فقط لأن القرار الروسي لا يستند إلى قاعدة دولية ما، وإنما بدايته لم تكن انضماما إلى التحالف الدولي ضد «داعش»، وإنما كانت هجوما على المعارضة كلها، ومحاولة إنقاذ لنظام كان هو بداية الكارثة. الولايات المتحدة تبدو مضطربة، وغارقة في الحملات الانتخابية التي بدأت، بل وفي حوادث صغيرة مثل حادث «أوريغون» الذي يهز الولايات المتحدة كلها. ما تبقى كان محاولة تجهيز الجيش السوري الحر، ولكنها هي الأخرى فشلت أو أسفرت عن نتائج متواضعة. النتيجة هي أن «الطبيعة» سوف تأخذ مجراها، ومن الجائز بالطبع أن يخرج من جوف الجحيم نسر يكون سيفا لإنقاذ وطن تكالبت عليه كثير من القوى، ولم يبق لأهله إلا مصير معتم بين التدخل الأجنبي، والاحتلال الداخلي، وبينهما كثير من العنف والدخان والحرائق، وتاريخ ولى وراح.
Tweet
&