يوسف مكي

الملايين التي خرجت إلى الميادين في المدن العربية التي طالها الربيع غدت نفسها الحاضن الاجتماعي للتطرف الذي نتج عنه تفكيك الكيانات الوطنية، ووضع المدن التي شهدت الحركات الاحتجاجية تحت سيطرة أمراء الحرب

&


أؤكد دائما على علاقة الانفلات الدولي ببروز ظاهرة الإرهاب. وأن من أهم مراحل الانتقال في السياسات الدولية غياب التوافقات بين القوى العظمى حول القضايا الملحة، وذلك بسبب اختلال موازين القوى، واستفحال صراع الإرادات بين القوى القديمة الآفلة، والقوى الفتية.


ومحور اهتمامي في معظم الأحاديث التي تناولت طبيعة الانتقال في موازين القوة الدولية، هو معرفة إسقاطات هذا الانتقال على واقعنا العربي. وقد أكدت سيرة القرن المنصرم، وبداية هذا القرن، أن تلك الإسقاطات على واقعنا كثيرة ومؤلمة، ليس أقلها تقسيم الوطن العربي، ونشوء الكيان الصهيوني في فلسطين وفشل التطلعات العربية المشروعة في النهوض والبناء.
وليس من شك في أن أخطر تلك الإسقاطات؛ استعارة مفاهيم قوى الهيمنة، وفرضها بالقسر على واقعنا العربي. وقد حفلت حقبة السبعينيات من القرن المنصرم

بأكثر تلك الاستعارات وأخطرها، معبدة الطريق لتغيير الفهم لطبيعة الصراع الاستراتيجي بين العرب والصهاينة. وللأسف فقد تسللت تلك المفاهيم إلى كل زوايا الوطن العربي، وتبارى الكتاب والمفكرون والمثقفون، بقصد أو بغيره، في استخدامها من غير تأمل بما تهدف إليه من تغيير في المعتقدات وبنية الفكر.


في الثمانينيات من القرن الماضي، حدثت استدارة كاملة في طريقة التعامل مع العرب الذين شاركوا في مواجهة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان. فتحولوا في غمضة عين من مجاهدين، إلى عرب أفغان، ومن عرب أفغان إلى إرهابيين. ووفقا لهذه الاستدارة، لا يشمل تعبير الإرهاب إلا ما هو متعارض مع استراتيجيات القوة الأعظم.


ليس الهدف من هذا الحديث، تقييم السياسات، بل محاولة فهمها. ومحاولة الفهم تتخطى التقييم والمعايير المزدوجة، وتنحو إلى استخدام التحليل والتفكيك.


تحديد المفاهيم ينبغي أن ينطلق من وعي دقيق للظاهرة التي يراد تفسيرها. وفي هذا المنعطف يظل التطرف أقسى معوق للنهوض والبناء. وقد قيل إن من أسباب استفحاله في السنوات الأخيرة، تغول ظواهر الفساد والاستبداد وتجريف العمل السياسي، وإن ذلك أدى بنتائجه إلى انهيار الاقتصادات العربية، وتفشي البطالة والأمية. وهناك من قال إنه نتاج فشل الأيديولوجيات، وتراجع المد القومي العربي واليساري، لصالح حركات الصحوة الإسلامية، وحاجة الشباب المسلم إلى اليقين.


ولا جدال في أن الواقع العربي مشحون بأزمات كثيرة وحادة من شأنها أن تشعل الغضب في نفوس الشباب، خاصة حين تتعلق الأزمات بالأمور الحياتية، والمتطلبات الأساسية للعيش الكريم. لكن هذه الأزمات كانت موجودة باستمرار في محيطنا العربي منذ عدة عقود، وإن بنسب مختلفة.


فطبيعة التشكيل الاجتماعي جعلت القدرات الاقتصادية تختلف من بلد عربي لآخر. وترسخت هذه الاختلافات بغياب التنسيق والتكامل الاقتصادي العربي. وقد ظلت على الدوام مصدرا لديمومة واقع التجزئة، وضعف المؤسسات الناظمة للعلاقات بين الأقطار العربية.


السؤال المنهجي الذي يطرح نفسه بحدة، هو لماذا حدث تغول التطرف في زمن محدد، وليس قبله أو بعده. والغريب في الأمر تزامنه مع ما عرف بالربيع العربي، حيث طرحت شعارات الحرية والديموقراطية وتداول السلطة والقضاء على الاستبداد والفساد.


كيف يستقيم تفسير الحركة الاحتجاجية التي خرجت بالملايين في تونس ومصر وسورية واليمن، مطالبة بالحرية والعدل، وجميع شعاراتها استنساخ للقيم الليبرالية الغربية التي تحض على التسامح، وتقدس دور الدولة إلى نقيض ذلك تماما، إلى المطالبة بدولة الخلافة! والأنكى من ذلك أن تكون الملايين التي خرجت إلى الميادين في المدن العربية، التي طالها "الربيع"، غدت نفسها الحاضن الاجتماعي للتطرف الذي نتج عنه تفكيك الكيانات الوطنية، ووضع المدن والبلدات التي شهدت الحركات الاحتجاجية تحت سيطرة أمراء الحرب.


توصلنا هذه المقدمة إلى استقراء أسباب أخرى أعمق، لدواعي انطلاق الحركة الاحتجاجية العربية، غير تلك الأسباب التي جرى تناولها، بشكل مسهب ومطرد، في القراءات التي طرحت من الإعلام العربي، ووضع هذه الحركة في السياق الدولي والإقليمي، وإسقاطاتهما على الواقع العربي.


استخدم تعبير الربيع العربي كثيرا من قبل وسائل الإعلام الغربية، وجرى تلقف التسمية من قبل أجهزة الإعلام العربية بسرعة البرق. والقصد من ذلك، كما جرى تصويره، أن الأمة العربية تمر بانعطاف تاريخي من مرحلة الاستبداد وغياب دولة العقد الاجتماعي إلى نقيض ذلك. والتعبير يشير إلى تشابه بين ما حدث في أوروبا الشرقية في مطالع التسعينيات من القرن الفائت، وبين التحولات التي أخذت مكانها في عدد من الأقطار العربية، بدءا من أواخر 2010.


لكن المقاربة هنا غير دقيقة. فباستثناء اللافتات التي رفعت لم يكن هناك تشابه بين الحدثين، فالحدث الأوروبي الشرقي كان فعلا من صنع التاريخ، ولم يكن هناك شك في أنه سوف يأخذ مكانه، بعد سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان يمثل الحائط المنيع الذي تحتمي خلفه دول الكتلة الاشتراكية. في حين بدا الربيع العربي كإعصار مفاجئ، لم تكن له مقدمات. وكان من المستحيل التنبؤ به من أي محلل سياسي. لكن الأمر الجوهري الذي غاب عن صورة الحدث هو الجامع المشترك بين الحدثين، وهو أن كليهما أخذ مكانه في لحظة تحول تاريخي عالمي، انتهى بسقوط نظام، وبداية انبثاق آخر.


لكن السؤال عن علاقة التحولات الدولية بتغول ظاهرة التطرف يلح على الجواب.
&