محمد الرميحي

هل بشار الأسد جزء من الحل، أم هو ونظامه كُل المشكلة؟ سؤال يحتاج إلى إجابة مقنعة علمية وليست عاطفية، ولكن قبل ذلك دعونا نستقرئ التاريخ.


في إبان المعارك الأولى للحرب العالمية الثانية وبعد هزيمة دانكرك المذلة لقوات الحلفاء، على السواحل الفرنسية، دفع أدولف هتلر حليفه الإيطالي موسوليني للإيعاز إلى فرنسا بأن تحاول إقناع الحكومة البريطانية بالتوجه إلى الصلح، طبعا بشروط، وعند اجتماع حكومة الحرب المصغرة، وكان ونستون تشرشل رئيسًا جديدًا لها في صيف عام 1940، انقسم أعضاء الحكومة بين قابل بالتوجه إلى الصلح وربما تعظيم شروطه من الجانب البريطاني، وآخرين أقلية؛ على رأسهم تشرشل، ضد ذلك التوجه. لم يكن أيضًا الجمهور البريطاني موحدًا، فقد كانت الصحافة وشريحة واسعة من المجتمع البريطاني في الطبقة الوسطى فما فوقها، مع الذهاب إلى الصلح، لأنها كانت تخشى من سيطرة البولشفك (وهم الشيوعيون الروس) على أوروبا، وكانوا يرون أن التحالف مع هتلر يمكن أن يكون مصدة للتقدم الآيديولوجي الشيوعي القادم من الشرق! طبعًا النتيجة نعرفها الآن، فقد كان إصرار تشرشل على مواصلة الحرب واعتبار أدولف هتلر وحزبه النازي هو الخطر الأكبر على الإمبراطورية البريطانية وعلى الديمقراطية الغربية، وشيئًا بعد شيء تبين أن خياره في معرفة الأخطار الكبرى كان ثاقبًا، إلى درجة التحالف مع الروس، لأنه فرق ببصيرة القائد بين الخطر الداهم والخطر اللاحق.


من يقرأ تاريخ تلك الفترة والخلافات التي دارت بين متخذي القرار البريطاني، يعرف كيف كانت وجهات النظر متعارضة كليًا، إلا أن تاريخ الحرب، رغم التضحيات، أظهر مناعة رأي ونستون تشرشل، وخرج من الحرب بطلاً قوميًا وعالميًا، في حين أن التاريخ نسي أو تناسى شامبرلين وهليفاكس، رئيس الوزراء السابق ووزير الخارجية، اللذين كانا يمثلان الحمائم!
بعض الدول العربية اليوم في هذا الموقف الذي يحتاج إلى كثير من التفكير الحصيف والرؤية الثاقبة، دون النظر للحظة قائمة مرتبكة، المطلوب الإجابة عن سؤال: أيهما أخطر على مستقبل الأمة العربية، وجود واستمرار نظام بشار وما قام به من تدمير وما فتحه من باب أمام تغلغل النفوذ الإيراني، أم وجود «داعش»؟ البعض واضح في وجهة نظره. إنه اختار أو في طريقه إلى أن يختار بشار على أساس أن في المستطاع في المستقبل التخلص من حكمه، وهي وجهة نظر بدأت في أميركا وتبعها بعض دول أوروبا الكبيرة مثل ألمانيا وفرنسا.. ترى وجهة النظر تلك أن المهم الآن هزيمة «داعش» بأي ثمن، وهي وجهة نظر اعتنقها الروس منذ فترة، ودافعوا عنها إلى درجة الاشتراك في الحرب الأهلية في سوريا، دون خطة خروج واضحة. ووجهة نظر أخرى، بين أقلية ترى، ولو على سبيل وضع الأولويات، أن «داعش» وأخواتها مقدور عليها في المدى المتوسط والبعيد نسبيا، لأنها لا تحمل «مشروعًا» له قيمة آنية أو تاريخية.. هي الأكثر جذبًا للسكان المحليين اليوم، لا بما تطرحه ولكن بسبب ما لاقاه هؤلاء السكان (من نظام الأسد والحشد الشعبي ومن الحوثيين أيضًا)، وبزوال تلك المؤثرات يضعف انجذاب الحاضنة الشعبية للتشدد وتتلاشى جاذبية تنظيمات مثل «داعش».


وجهة نظر تأهيل النظام السوري تنقسم إلى رأيين؛ الأول أن هذا التأهيل مؤقت إلى أن تنجلي الحرب ضد الإرهاب وتسكت المدافع، والرأي الآخر يرى أنه عندما تسكت المدافع يقرر المنتصر صيغة التسوية وبينها تعويم الأسد ونظامه. وكما أن الانقسام حول سوريا قد ظهر، فقد كان هذا الانقسام برز باتجاه اليمن، فما إن اتخذ قرار البدء بـ«عاصفة الحزم»، حتى وجدنا في الصف صاحب المصلحة لمقاومة التقدم الإيراني، بعض التراجع المبطن الذي بدأ يفقد ذلك التردد الخفي مع تقدم زمن الحرب وأثمانها الكبيرة، ويظهر إشارات سلبية تجاهها، هذه الانقسامات تشي بأن البعض لم يحدد أولويات الصراع وماهية خطورته!
الموقفان العربي الحالي والبريطاني السابق يعودان من جديد في الساحة الشرق أوسطية، وهما إما الوقوف أمام تيار إيراني كاسح يرغب في التحكم في البلاد العربية، قاصيها ودانيها، وهي الأولوية القصوى التي يجب أن تواجه، وإما الانشغال بحرب «إرهاب» ضد مجموعات شبه ضبابية هي في الأصل أقنعت كثيرًا من حاضناتها بأنها تقف ضد التوسع الإيراني الشره في بلاد العرب. هنا يجب التوقف من أجل تحية واجبة للقيادة السعودية التي ترى عن حق أن هناك موقفًا تاريخيًا يجب عدم الحيدة عنه أو التراجع عن تحقيقه، وهو وقف التقدم الإيراني في أرض العرب، إذا ما كان في شكل الحوثي أو في شكل نظام بشار الأسد، وهو أمر يحسب لتلك القيادة التي أخذت على عاتقها الوقوف أمام تراجع الحمائم، لأن ذلك التراجع لن يقف أمام حد، بل سوف يترك الأرض للتقدم الإيراني الذي أغراه فراغ قوة.


«عاصفة الحزم» تقول للجميع من خلال التحالف العربي بقيادة السعودية إن الوقوف أمام نظام بشار الأسد والحوثيين هو موقف واحد، بتجاوز الفرع إلى الأصل، ويسعى لانعقاد المنعة العربية حتى لو دفع فيها أثمانًا كبيرة، والموقف التاريخي المختلف عما تم في الحرب العالمية الثانية، وهنا التاريخ لا يكرر نفسه، فإن موقف العزم لا يستثني أيضًا الجماعات الإرهابية، ولكنه لا يضحي بالهدف الأكبر في سبيل تحقيق هدف أقل أهمية مهما عظم الآن. وفي حال تعويم نظام بشار، فلن يبقى لفكرة العروبة مكان، ولا لاستقلال العرب مدخل.. سيكون العالم وقتها متجهًا لطهران لتحديد مستقبل العرب أو التعامل معهم من خلال وكيل، هذا ما يراه بشار نفسه، فقد صرح مؤخرًا أن تحالف «موسكو - بغداد - طهران - دمشق» يجب أن ينجح، لأن فشله، كما قال، «يدخل المنطقة في فوضى». الحقيقة أن نجاح هذا التحالف يدخل المنطقة في فوضى أكبر وأعم، لأنه وقتها ستكون الأقلية متحكمة في الأكثرية، وهو أمر لم يحدث تاريخيًا. الصراع يمكن أن يتفاقم في حال تأهيل أو تعويم نظام الأسد، ذلك أمر لا شك فيه ولا مناص من حربه، ليس فقط لأنه هدم الشام على ساكنيها، وليس فقط لأنه قتل حتى الآن ثلاثمائة ألف شخص، وليس فقط لأنه هجّر الملايين، بل فوق كل ذلك.. هو يريد أن يسلم العواصم العربية إلى طهران، وهو الشر الأكبر والأفدح.

آخر الكلام:
خيار السياسيين للأولويات أثناء الحروب والأزمات هو الذي يحدد - طال الوقت أو قصر - من هو المنتصر أو المنهزم في نهاية الأمر.
&