حسن حنفي

فرح البعض في دول ما سمي «الربيع العربي» بثورتهم الشعبية منذ ما يقرب من خمس سنوات. وقارنوها بالثورة الفرنسية، وغيرها من الثورات الشعبية، ثم حزنوا عندما لم يحسنوا قيادتها، إما لغياب القيادة الثورية، أو لغياب الأيديولوجية الثورية الواحدة، أو لغياب النظام والفوضى بعد الثورة، ولذلك سارت الثورة في عدة تموجات بعضها غير مرغوب.

&

ومع ذلك، أبرزت الثورة نقاط ضعف بعض دول الوطن العربي بطوائفه ومذاهبه وأعراقه، وظهرت مضادات المبادئ الأربعة للثورة: ليس الحرية، بل الاستبداد، وليس الخبز، بل الفقر وارتفاع الأسعار، وليس العدالة الاجتماعية، بل الظلم الاجتماعي واستمرار وأزمات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، وليس الكرامة الإنسانية، بل خرق حقوق الإنسان في كثير من الأحيان.

وبسرعة أصبح الإرهاب هو العدو الأول للثورة، وانتشرت مقاومة الإرهاب في الإعلام، ثم خفتت نغمة الإرهاب قليلاً، وسادت نغمة الفساد الحكومي بالمليارات من وزراء يتاجرون في أراضي الدولة، وكما حدث لبعض الرؤساء من القصر إلى المعتقل حدث للوزراء من مجلس الوزراء إلى السجن، وتم ذلك قبل الثورة أو بعدها، وأصبح تغيير الوزارة مستمراً تخلصاً من الوزراء الفاسدين.

وثمة ضرورة للقضاء على بعض مخلفات الاستبداد السابق، صحيح أن هناك استعدادات تجري على قدم وساق للانتخابات التي لا يعرف أحد برامج أحزابها، تسعى كلها من خلال البرلمان للوصول إلى السلطة. ويتآلف الفلول ورجال الأعمال وبعض الجماعات الدينية للاستيلاء على البرلمان باسم الديمقراطية. وبعض الناس يأخذ مسافة أمان من الاستقطابات السياسية، خوفاً من الانزلاق فيها وخسارة مصالح الوطن.

ولم تظهر مواقف ضد إسرائيل في أي من برامج الأحزاب، نشراتها أو دعاياتها، واختفى العدو الرئيسي الأول للأمة العربية، بل تمت الدعاية، أحياناً، لتوسيع معاهدات السلام، وتحقق حلم إسرائيل بتفتيت الوطن العربي، العراق، وسوريا، وإشغال مصر في سيناء، ولم يعد العدو في الخارج بل في الداخل. يقتل بعضنا بعضاً باسم الطائفة أو العرق، ولم تعد إسرائيل في حاجة إلى جيش لمحاربة جيش، ولم تعد تخشى من الجبهة الشمالية، سوريا والعراق ولبنان، بعد أن تفتتت جيوشها. وتدخلت إيران في العراق وسوريا ولبنان! والعراق وسوريا في طريقهما إلى التفريغ من السكان، مهاجرين عبر البحار إلى بقية أجزاء الوطن العربي أو إلى أوروبا الشرقية كي تصبح سوريا فلسطين ثانية، وبدلاً من محنة واحدة في 1948 و1967 تكون لدينا ثلاث محن أخرى، سوريا والعراق وليبيا، ويكون ذلك أحد تنويعات الشرق الأوسط الجديد الذي تملؤه إسرائيل وأميركا، ويفرغ من أصحابه.

لقد كانت الدولة الوطنية مكسب حركة الاستقلال الوطني، وتمتع مواطنوها بالحرية والاستقلال، ثم تحولت في بعض الحالات إلى نظام مستبد فاسد. يخلخل نفسه بنفسه حتى رأى في القومية العربية مخلصاً، تحميه من الاستبداد والفساد، ثم تعثرت تجربة الستينيات بالعودة إلى الدول الوطنية، واستمرت تجربتها مدة طويلة حتى عم الاستبداد والفساد مرة أخرى، وكان لابد للشعب أن يثور، وهو ما حدث في يناير 2011.

والكل الآن ساكن في مكانه ويسأل: ما العمل؟ يترك نفسه لحكم الحظ أو ينضم إلى قوافل المهاجرين الهائمين باتجاه أوروبا، وقد تفاقم خطر الإرهاب، وقارب موضوع الفساد أن يُستهلك، نظراً لتردده الكثير، وينقص إذن البحث عن موضوع ثالث جديد يعبر عن حاجة الناس، خاصة الطبقة المثقفة وهو الحرية ضد الاستبداد. ويجيب على سؤال: لماذا تستمر بعض مخلفات الاستبداد على رغم من تغير نظم الحكم، ومظاهر الديمقراطية؟ وأين العدو الرئيسي منذ أكثر من نصف قرن الذي دخلنا ضده عدة حروب وما زال قائما يستوطن ويتوسع ويطرد سكان الأرض ويهدم المنازل؟ والفلسطينيون وحدهم يقاومون. والعرب في همومهم الداخلية وحروبهم فيما بينهم تاركين الفلسطينيين وحدهم يدافعون عن الأرض وعن الأقصى، وكيف يستطيع العرب إعادة تخطيط مستقبلهم للدفاع عن أراضيهم وإعادة ما يُسلب منها؟ وكيف يستطيعون تحويل عناصر ضعفهم قوة، وعناصر قوة إسرائيل ضعفاً؟ فالحرب ليست فقط بالسلاح بل بالموارد الاقتصادية المتوافرة عند العرب، كيف تعود إسرائيل العدو الأول والرئيسي للعرب بدلاً من الاقتتال فيما بينهم وقتل الآلاف وتهجير الملايين من أراضيهم؟ كيف يستطيع العرب أن يستفيدوا من موقعهم الجغرافي وثقلهم التاريخي ليكوّنوا قوة إقليمية جديدة في الشرق الأوسط تملأ فراغه بدلاً من أميركا وإسرائيل، وتحيط بإسرائيل وتوقفها عند حدها أيديولوجياً واقتصادياً وعسكرياً؟ هل تستطيع مصر أن تضع استراتيجية جديدة لها تدافع بها عن نفسها وعن العرب، بحيث تفرغ من مواجهة الأعداء الداخليين لتتفرغ للعدو الخارجي؟
&