&هالة مصطفى
&
تدّخل روسيا عسكريا فى سوريا هو حدث غير مسبوق منذ انتهاء عصر الحرب الباردة. وهو ليس كتدخلها فى أوكرانيا ومن قبلها الشيشان وغيرها من الجمهوريات السوفيتية السابقة التى تُعدها جزءا من أمنها القومى المباشر أو فناءها الخارجى. ورغم أن العنوان العريض للتدخل الأخير هو محاربة الارهاب المتمثل فى تنظيم داعش فى سوريا والعراق، إلا أن الأمر تجاوز حدود تلك المعركة, ليس فقط لأن ما استهدفته من ضرباتها العسكرية امتد الى مواقع أخرى تخص المعارضة السورية, والتى على إثرها تعالت انتقادتها ومعها الولايات المتحدة التى تدعمها لموسكو, ولكن لأن الأهداف الروسية تذهب أبعد من ذلك, إذ تتعلق بتواجدها الجديد فى الشرق الأوسط وبتغير نمط سياساتها الخارجية فى عهد بوتين.

إن لروسيا مصالح مباشرة فى سوريا لاتقتصر على قاعدتها البحرية فى ميناء طرطوس, منفذها إلى المياه الدافئة, ولكنها أيضا مرتكزها لتوسيع وتوطيد نفوذها فى الاقليم ككل. لذلك تعتبر الورقة السورية وتحديدا نظام بشار هو ورقتها الرابحة والضاغطة فى أية مفاوضات إقليمية أودولية تشمل ترتيبات مستقبلية للأوضاع سواء فيما يتعلق بالمنطقة، أو مايدخل ضمن محيطها الجغرافى. ولعل ذلك ما يفسر اختيارها لتوقيت تدخلها العسكرى الحالى، الذى لم يأت إلا بعد ما ضعف النظام وفقد سيطرته على كثير من المدن والمواقع, إنها اللحظة الحرجة التى استلزمت إنقاذه, وقد يضاف إلى هذا السبب توقيع إيران - شريكتها فى دعم نفس النظام - لاتفاقها مع أمريكا بخصوص ملفها النووى, والذى يتضمن بالضرورة تفاهمات أخرى تمتد إلى باقى الملفات الإقليمية, وكان لابد أيضا ألا تنفرد طهران بذات الورقة، أوعلى الأقل تُبقيها تحت مظلتها بحيث لاتكون هى (أى موسكو) قوة ثانوية فى هذا السياق تكتفى بتسليح النظام، أو دعمه فى مجلس الأمن دون وجود فعلى على الأرض. هكذا تُصبح روسيا بتدخلها العسكرى هى الفاعل الرئيسى وربما الأقوى الذى لا يمكن تجاهله بل وقد تمتلك القول الفصل فى الأزمة من وجهة نظرها.

ولكن لأن الأزمة السورية قد تم تدويلها وتضاربت فيها المصالح الإقليمية وانقسمت حولها الآراء والأهداف فقد نُظر إلى الدور الروسى على أنه إحياء لسياسة الأحلاف العسكرية والمحاور التى عرفتها المنطقة فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى إبان فترة الحرب الباردة وتصارع المعسكرين الغربى بزعامة الولايات التحدة والشرقى بزعامة الاتحاد السوفيتى وقتئذ على اقتسام النفوذ حول العالم, وأكثرها شهرة هو حلف بغداد الذى أنشىء فى ذروة هذه الحرب بمبادرة ورعاية أمريكية، وضم إلى جانب بريطانيا (القوة الرئيسية المؤثرة فى الشرق الأوسط فى ذلك الوقت والحليف الأول لأمريكا) كلا من باكستان وإيران وتركيا والعراق، والذى تصدع بخروج الأخيرمنه بعد انقلاب عبد الكريم قاسم على النظام الملكى لنورى السعيد 1958، وانتهى بانسحاب إيران مع قيام الثورة الإسلامية 1979. الآن يتشكل حلف روسيا العسكرى من بعض هذه الدول (إيران وحلفاؤها أى نظامى المالكى فى العراق وبشار فى سوريا إلى جانب حزب الله فى لبنان) ولكل منها ميليشياتها أو قواتها المسلحة التى تحارب على الأرض السورية.

وكأى حلف من هذا النوع فلابد وأن يثير - وسيثير - ردود أفعال مضادة حتى وإن كان على المدى الأطول، ولن تكون سوريا سوى نموذج مُصغر لما قد تشهده منطقة الشرق الأوسط كلها من نزاعات وصراعات مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية. صحيح أنه إلى الآن بدا موقف واشنطن ضعيفا أو خافتا إزاء تلك المتغيرات الجديدة، إلا أنه لا يمكن حسابه كموقف ثابت فهو أقرب إلى المواقف البراجماتية الأمريكية أى العملية التى تمليها اللحظة الراهنة. فواشنطن لم يكن لديها خطة بديلة لرحيل بشار الأسد فى ظل معارضة مدنية ضعيفة وأخرى متطرفة عنيفة تزداد قوة مع استيلائها على مدن وأراض وثروات, بل وربما تراهن فى هذه المرحلة على استنزاف روسيا فى القتال الدائر فى سوريا إضعافا لها مثلما كان وضعها هى ذاتها فى العراق قبل أن تنسحب منه فى ظل إدارة أوباما, ولن يختلف موقف أوروبا وحساباتها كثيرا عنها كذلك حال الكثير من القوى الاقليمية وفى مقدمتها تركيا التى سيمثل تدخل روسيا عسكريا والحلف الذى تقوده تحديا لها, خاصة مع تفاقم مشكلة الأكراد (أكراد سوريا والعراق ممن يطالبون بالانفصال وإقامة دولة مستقلة) والذين سيكون لموسكو نفوذ نسبى عليهم. ونفس الشىء ينطبق على الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية, التى سترى فيه تهديدا مباشرا لمصالحها بحكم تصدر إيران له بكل ما تمثله من منافسة وصراع على النفوذ الاقليمى, والذى تجسده حرب اليمن بسبب دعم الأولى للحوثيين, أى أنه يُخل بتوازن القوى الاقليمية من وجهة النظر السعودية. أما مصر فلن يكون موقفها أقل تعقيدا, فهى من ناحية لا ترغب فى انهيار الدولة السورية، أو ذهاب بشار دون وجود بديل واضح يحفظ للدولة تماسكها واستمرارها ويمنع تحولها إلى ليبيا أوعراق أخرى, ومن ناحية أخرى فإن تحالفها مع السعودية ودول الخليج عموما يرتب التزامات مغايرة لأن المواقف الأخيرة لم تتبدل إزاء النظام السورى حتى وإن اختُزلت التصريحات الرسمية واقتصرت على شخص بشار.

وأخيرا, فإن تشكُل الحلف الأخير من دول أوقوى شيعية بالأساس سيظل يُقسم المنطقة طائفيا وستستمر معه الحروب بالوكالة كما هو الوضع منذ سنوات.

وفى كل الأحوال تبقى هناك أسئلة منطقية مثل هل نحن على مشارف حرب عالمية كما يتردد كثيرا؟ والإجابة لا, لأنها من قبيل المبالغات. هل هى حرب باردة جديدة؟ نعم جزئيا لأن روسيا ليست هى الاتحاد السوفيتى. هل هناك إمكانية لعقد صفقات بين واشنطن وموسكو؟ يبدو ذلك ممكنا لأنه كان يتم حتى فى ذروة الحرب الباردة. هل ستقضى الحملة العسكرية الروسية على داعش؟ ليس مؤكدا لأن الأهداف متشعبة ولأن حسم المعركة على الأرض قد يحتاج إلى قوات برية خاصة أن التحالف الدولى الذى تتزعمه الولايات المتحدة، وتشارك فيه دول الخليج وتركيا لم يحقق الشىء الكثير من خلال الضربات الجوية. هل يوجد حل سياسى واضح للأزمة السورية تتوافق عليه مختلف الأطراف؟ لا يوجد حتى الآن وهذه هى المعضلة الحقيقية. هل انتهت سيناريوهات التقسيم؟ ليس مؤكدا فمازال كل ما يحدث يدخل فى إطار إطالة أمد الصراع لإعادة توزيع القوة والنفوذ.