محمد خروب
&
لن ينتهي السجال وحملة الاتهامات المتبادلة في تركيا، حول مَنْ يَتحمّل مسؤولية «المذبحة» التي أوقعها تفجيران انتحاريان في العاصمة التركية أنقرة، مُستهدِفاً مسيرة دعت اليها أحزاب كردية وأخرى يسارية مُعارِضة كانت ترفع شعار السلام والديمقراطية، على نحو يبدو أن تركيا قد انزلقت الى مربع الإرهاب وبات شبح التفجيرات الانتحارية يفرض نفسه على المشهد المحلي, بصرف النظر عمّا إذا كانت معركة الانتخابات الحاسمة في أول الشهر الوشيك التي يخوضها الرئيس التركي أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، قد وفرت أجواء مواتية لأكثر من طرف محلي وخارجي، كي يضرب ضربته المُوجِعة والمُفجِعة في الآن ذاته، وكي يُعيد خلط الأوراق من جديد، وبما يسمح (ربما) ببلورة معادلة تحالفات واصطفافات جديدة، يبدو انها ستكون في غالبيتها موجهة ضد اردوغان وحزبه، بعد ان باتت قطاعات شعبية وحزبية وسياسية واسعة، ترى أن الرجل قد تجاوز كل الخطوط الحُمر، وأخذ البلاد بسياساته القائمة على المزاجية والغطرسة والاستعلاء، إلى مربع العَداء مع المحيط الأقرب واستياء المحيط الأبعد، بما قد يُفضي إلى عُزلة سياسية رغم عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، ورغم الزيارات المتلاحقة التي يقوم بها أردوغان إلى دول عديدة في قارات المعمورة الخمس، إلا أن أحداً لا يشك بأن الرجل «يناضل» من أجل مستقبله السياسي الذي بات محفوفاً بالمخاطر ويمكن أن يُطاح به أو حتى يُفرض عليه الإنكفاء في قصره الأبيض حتى إنتهاء ولايته (وربما دفعه للاستقالة) إذا لم يُحرز حزبه الأغلبية التي يطمح إليها وخصوصاً إذا ما فشل في تشكيل حكومة ائتلافية كما حدث مباشرة بعد انتخابات السابع من حزيران الماضي، والتي استغلها من أجل فرض خيار الذهاب إلى انتخابات مبكرة على الاتراك وخصوصاً أحزاب المعارضة، لكن المشهد اختلف منذ ذلك الحين، سواء في ما خصّ المشهد الداخلي، حيث ازدادت التوترات والمماحكات والمواجهات الدامية بين الجيش والشرطة التركية من جهة ومقاتلي حزب العمال الكردستاني PKK من جهة أخرى ام في المشهد الإقليمي حيث دخلت موسكو على خط الأزمة السورية ميدانياً، فقلبت المعادلات وخلطت الاوراق وفرضت مُعطيات وقواعد جديدة للعبة مختلفة عمّا ارادته انقرة او عما اعتادت عليه وسعت اليه منذ اربع سنوات ونصف.
ما علينا..
مذبحة انقرة، تؤسس لمرحلة تركية جديدة، حتى لو لم يتم اكتشاف الفاعلين او الجهات التي تقف خلفهم، فسقوط مثل هذا العدد الكبير من الضحايا بين قتيل وجريح، يعني ان الذين ارتكبوها سعوا الى قتل اكبر عدد ممكن، وذلك مع تزامن التفجيرين وفي المنطقة نفسها المزدحمة بالمتظاهرين وانصار المعارضة على مختلف توجهاتها وخطابها بين يساري وعلماني وكردي ومعارض لسياسات اردوغان وحزبه الاسلاموي, ناهيك عن ان المنطقة ذاتها هي نقطة التقاء شرائح عديدة من الاتراك تستخدم محطة القطارات.
أن يَتهِم صلاح الدين ديميرطاش الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي, «الدولة» التركية بأنها تقف خلف الانفجارين وانها قامت بهما ضد الشعب، ثم لا تتردد اوساط الحكومة، رئيسها اوغلو ووسائل الاعلام المؤيدة للحزب الحاكم في اتهام «الاكراد» بأنهم المسؤولون عن هذه المذبحة، يعني ان القطيعة قد باتت تسم العلاقات بين الطرفين وان الاسابيع الثلاثة المتبقية على استحقاق الاول من تشرين الثاني القريب، ستكون ساخنة وربما اكثر دموية، رغم ان حزب العمال الكردستاني قد أمر مقاتليه بوقف اطلاق النار تضامناً مع الضحايا.
نحن إذا أمام تركيا جديدة، بعد أن ضربها الارهاب في العاصمة انقرة وبعد ان اندلعت المظاهرات الصاخبة والمُتهِمة الحكومة بالمسؤولية, في اسطنبول وديار بكر وخصوصاً في مدن»اوروبية» عديدة، على نحو يُعيد التذكير بما كان حدث في مدينة سورتش في ايار الماضي من تفجير ادى الى سقوط عدد كبير (ولكن أقل من تفجيري انقرة) مستهدِفاً ايضاً تجمعاً انتخابياً لحزب الشعوب الديمقراطي.. وإذ لم تعد تركيا آمنة بعد الان من انتقال «عدوى» الارهاب والتفجيرات وبخاصة إذا ما تأكدت مسؤولية داعش عن تفجيري انقرة (كما كانت تبنت تفجير سورتش) فإن من المنطقي ان تبادر حكومة اردوغان-اوغلو الى اعادة النظر في سياساتها التي ثبت انها خاطئة وتنهض على نظرية المؤامرة وتصفية الحسابات والحنين الى الماضي العثماني الاستعماري, فضلاً عن احتضانها لتنظيمات ارهابية ظنت انها ستكون «صديقة» لها او تتردد في استخدام التسهيلات والدعم الاردوغاني, لضرب الأمن والاستقرار التركيين، وقد ثبت تهافت مثل هذا الاعتقاد، بل سذاجته.
هل يؤسس «تفجيرا» انقرة، الى مُقاربة تركية جديدة شجاعة وواقعية تلحظ ان الارهاب سلاح ذو حدين وان الارهابيين مهما كانت «رطانتهم» وهويتهم الاسلاموية... لا أمان لهم؟
.. الأيام ستقول.