إياد أبو شقرا

ديار العرب هذه الأيام لا تخلو من مواجع. فلا العراقي الذي تقسم بلده واقعيًا مرتاح تحت هيمنة إيران و«عاطفة» أميركا. ولا الليبي واثق بالمستقبل في ظل الانقسام والتناهش بين التشدّد الديني والولاء المناطقي والعشائري على الرغم من جهود برناردينو ليون.


وما عليك أن تنظر بعيدًا في سوريا ولبنان، حيث يقتضي رسم الخرائط وإعادة توزيع النفوذ «تغيير» الشعب نفسه.. فهنا تقتل مئات الألوف وتشرّد الملايين علنًا، وهناك يُصار إلى «تغيير» الشعب عبر تهجيره الممنهج من خلال تعطيل الحكم المدني وضرب مؤسّساته بواسطة ميليشيا دينية مذهبية تنفذ مخططات إقليمية. أما اليمن «السعيد سابقًا» فأنقذ في اللحظة الأخيرة قبل أن يجري تسليمه تسليم اليد لمن يستخدم المذهبية «حصان طروادة» لتدمير العرب من الداخل.. ولكن وسط كل ذلك يستحيل تناسي الجرح الأقدم.. جرح فلسطين.


هذا الجرح عاد ينزف اليوم، بينما تتغير كيمياء إسرائيل السياسية ويتراجع «اليسار» بشقّيه الماركسي والعمالي - الصهيوني، ويضيع الليبراليون ويستولي غُلاة التوراتيين حتى على مواقع اليمين الديني.
لقد كانت إسرائيل في مخيلة دعاة الصهيونية الروّاد «حلم خلاص» من التمييز والاضطهاد في أوروبا. وكان بعض مثقّفيهم مؤمنين بأن حلم «أرض الميعاد» أو «الوطن الموعود» يجب أن يتّسع لكل المكوّنات والأفكار في المجتمع اليهودي التعدّدي والمتنوّع بتكوينه في البيئات التي استقر فيها اليهود على امتداد العالم. بل حتى «وعد بلفور» – على الأقل، من حيث النص المكتوب – اشترط ألا يضرّ قيام الدولة بمصالح «السكان الأصليين من غير اليهود»، أي الشعب الفلسطيني.


ثم عند رسم خريطة تقسيم فلسطين عام 1947 أخذت الأمم المتحدة في الاعتبار معايير عدة تتصل بالكثافة السكانية وملكية الأراضي وما إلى ذلك. ومَن يراجع تلك الخريطة يلحظ كيف روعي الواقع الديموغرافي في رسمها، واقتصر نصيب «الدولة اليهودية» على ثلاثة أجزاء يتصل بعضها ببعض عند نقطتي تقاطع مع أراضي «الدولة الفلسطينية»:
الجزء الأول (في الشمال)، تشكله منطقة الجليل الشرقي التي يعتبر اليهود أن فيها مدينتين من مدنهم المقدسة الأربع هما صفد وطبرية، ويتقاطع هذا الجزء من شمال فلسطين غرب بلدة العفّولة مع الجزء الثاني.
الجزء الثاني (في الوسط الغربي)، يبدأ من جنوب غربي الجليل - مرج ابن عامر وجبل الكرمل، حيث أدى الاستيطان السريع إبان فترة الانتداب إلى جعل حيفا مدينة ذات كثافة يهودية عالية. ويمتد هذا الجزء بطول السهل الساحلي إلى نقطة التقاطع الثانية جنوب الرملة وشرق أسدود وغرب اللطرون.


الجزء الثالث (في الجنوب)، يبدأ من نقطة التقاطع الثانية المذكورة ويشمل معظم صحراء النقب وصولاً إلى خليج العقبة.


مقابل هذا الترتيب ضمّت «الدولة الفلسطينية» أيضًا ثلاثة أجزاء هي: الجليل الغربي بما فيه مدينة عكا ومدينة الناصرة، والضفة الغربية – ولكن بحجم أكبر بكثير من الحجم الذي كانت عليه حتى 1967؛ إذ ضمت مدن اللد والرملة وبئر السبع وأراضي غرب القدس – وقطاع غزة الأكبر حجمًا بكثير مما انتهى إليه شمالاً وجنوبًا؛ إذ ضم كلاً من أسدود والمجدل وعسقلان، كما ضم أراضي واسعة في الجنوب بغرب النقب على حدود سيناء. وبقيت يافا، بموجب الخريطة «جزيرة عربية» تحيط بها أراضي «الدولة اليهودية». أما مدينة القدس والمناطق المحيطة بها فوضعت مباشرة تحت سلطة الأمم المتحدة.
طبعًا، استغلت المؤسسة السياسية والعسكرية الصهيونية الرفض العربي المرتقب لخريطة التقسيم الدولية عشية إعلان «الدولة اليهودية» عام 1948، ومن ثم إعلان العرب الحرب عليها، فاحتلت مناطق واسعة غيّرت تمامًا خريطة 1947.


وتغيّرت وقائع كثيرة بمرور العقود وتراكم الأخطاء العربية، وفي طليعتها العجز العربي الكامل عن إدراك حقيقة إسرائيل وما تمثله للغرب وفي الغرب. وبعدما ضمت إسرائيل كل الجليل الغربي إليها عام 1948 مع أجزاء عدة من الضفة وقطاع غزة، احتلت كامل الضفة والقطاع عام 1967. واليوم، على الرغم من التوافق على «دولة فلسطينية قابلة للحياة» في «اتفاق أوسلو» الذي استحق عليه الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات والزعيمان الإسرائيليان إسحق رابين (الذي قتله متطرف إسرائيلي) وشيمعون بيريس جائزة نوبل للسلام، يجوز القول إن الحقائق على الأرض ما عادت تسمح لا بـ«دولة فلسطينية» ولا بتسوية سياسية للأزمة الفلسطينية والنزاع العربي - الإسرائيلي.


في الغرب، ثمة مَن ما زال يصر على تحميل الفلسطينيين المسؤولية في إجهاض مسيرة السلام، لكن الحقيقة أن الفلسطينيين وقضيتهم كانوا - مثل أشقائهم السوريين اليوم - ضحية عدوين: الأول علني يقاتلهم وجهًا لوجه، والثاني، مستتر يزعم أنه حليفهم ويحضهم على الرفض والتطرّف وينفخ في جمر اختلافاتهم.


وحقًا، بينما كان العدو العلني المتمثلّ باليمين الإسرائيلي المتطرّف يستحوذ على مؤسسة السلطة في إسرائيل، مؤكدًا صراحة من أعلى المواقع الحكومية رفضه مبدأ «الأرض مقابل السلام»، ومحرّكًا التوراتيين الإرهابيين ليقتلوا ويحرقوا ويصادروا الأراضي، كان العدو المستتر ينشط أيضًا باتجاه تمزيق الفلسطينيين ودفعهم للانتحار. ولقد عمل هذا العدو على تمزيق وحدة الفلسطينيين، وزرع العداوات بينهم عبر المزايدة عليهم في قضيتهم، وأقنع بعضهم بأن السبيل الوحيد لمواجهة الفاشية التوراتية هي الفاشية «الداعشية» التي يرعاها في فلسطين.. ويزعم أنه يحاربها في سوريا والعراق.


اليوم يخوض الفلسطينيون ما يبدو أنه «انتفاضة ثالثة» بعدما قضى بنيامين نتنياهو وزبانيته فعليًا عبر سياسة الاستيطان التهجيرية على أي فرصة لتسوية سياسية عادلة ودائمة.


«الانتفاض» رفضًا للاستسلام من حق الفلسطينيين، بل هو الآن خيارهم الوحيد. ولكن إن كان عليهم أن يدركوا حقيقة مهمة فهي أن عليهم اعتماد العقل والوحدة الوطنية وتحاشي الرهان على من يتاجر بهم وبآلامهم لتحسين شروطه التفاوضية الإقليمية من فوق رؤوسهم، وهو الذي عقد للتو معاهدات ومواثيق مع من رفض الاعتراف بحقوقهم.


مصير فلسطين يجب أن يكون الأولوية الأولى والأخيرة، وليس أي شعار فارغ آخر أتقنه المزايدون على امتداد عقود.
&