محمد الساعد

يبدو أن مهنة «الطبالين» وقارعي الحروب لم تنته بعدُ من حياة بني يعرب، بل من الواضح أن سوقهم رائجة هذه الأيام مع روائح الموت، وغيوم الكوارث والمصائب، وأصوات الدمار التي حلت.

&

ويشرح معجم «المعاني الجامع» كلمة «طبال» المشهورة عند العرب، والتي تستخدم لوصف من يحمل طبلاً ويضرب عليه بالتالي: الطَّبَّالُ هو: صاحبُ الطَّبْل والضاربُ عليه، أَو الماهِرُ فيه. والطَّبَّال شخص «مدلس» عادة، فهو يقوم بالطبل، لكنه لا يرقص عليه، بل يورط الناس في وصلات من الرقص والزار، وهو يتفرج عليهم، بل ويضحك عليهم، ووظفت العرب كلمة «طبل» كثيراً، فهي تعني أحياناً الشخص الأجوف، الذي بلا معنى. وكانت الجيوش في الأزمان الغابرة تضع الطبالين في مؤخرة الجيش، ويكون دورهم مقتصراً على التصفيق وقرع الطبول والتزمير؛ لإثارة الحماسة في نفوس الجنود، وخوض القتال وعدم التراجع أو الهروب.

&

وعلى رغم أن زمن الطبالين السائرين في الشوارع انتهى مع انتهاء عصر الانحطاط، الذي تلا سقوط بغداد، إلا أنه فيما يبدو أن هذه المهنة لا تفنى، ولا يغور أصحابها في داهية أبداً. ولا يمكن وصف بيان الـ55 الذي خرج على الإنترنت قبل أيام، إلا بكونه «طبول حرب» بامتياز، يقرعها مجموعة من الطبالين، الجالسين في بيوتهم واستراحاتهم ومزارعهم، كما كان أسلافهم يقبعون في مؤخرة الجيوش، فلا هم الذين قاتلوا قتال الرجال مع الأمة التي حشدوها ودفعوها إلى الموت، ولا هم الذين تركوها في حالها، وتركوا أمرها لولاة أمرها.

&

الطبالون الجدد، أكثر دهاء من أولئك المساكين من الطبالين القدامى، الذين عاشوا في القرون الماضية، فقراء مسحوقين يأكلون فتات الأرض، أو ما يأتيهم من نقوط الأفراح والمناسبات، فقد كانوا أفقر الناس وأرقهم حالاً، وليتهم يستيقظون ولو لساعات فقط، ليروا أن أحفادهم «المطبلاتية»، حولوا «الطبل» إلى مهنة تدر الملايين.

&

كما أنهم تخلوا عن تغبير أقدامهم عند مرافقة الجيوش أو المحاربين، فحتى هذا الأمر المتعب تجاوزوه، فهو يقعد على فراشه الوثير، ويطلب من «غلمانه» كتابة نص تحريضي، ثم يمرره عبر الفاكس، أو الإيميل على «نقابة الطبَّّالين الحركيين»، ليتم التوقيع عليه، ثم نشره في الآفاق. أما البيان نفسه فيتحول إلى «طبل إلكتروني»، يحشد الأطفال والغلمان والدهماء وراءهم؛ ليدفعوهم بعده، للنفير وخوض القتال والحروب في مواطن الفتن.

&

في هذه اللحظات، أجزم عزيزي القارئ أن الموقعين على البيان الشهير، هم بين نائم، أو متكئ على فراشه الوثير، أو يقود سيارته الفارهة، أو ممتشق «هاتفه» مغرداً عن الجهاد ودفع الصائل، متباهياً ببيانه ومدافعاً عنه، بينما هناك المئات إن لم يكن الآلاف من الشبان الذين صدَّقوه، يلملمون ملابسهم من غرف نومهم، متسللين من خلف أمهاتهم وآبائهم، وربما زوجات وأطفال في عمر الزهور، لن يروهم بعد ذلك أبداً.

&

ألم نقل إن مهنة الطبال في شكلها الانتهازي الحركي الجديد، مهنة «مدرة» للمال، وغير مكلفة وبلا أي مخاطر، وأن الأمر لا يلزمه سوى، حشد مجموعة من الكلمات الرنانة، واللعب بعواطف الناس، وشق الصف، وسرقة دور الحاكم، وفرض الرأي عليه، وكأنَّ الحاكم جاهل بالسياسة، أو متقاعس عن «الحزم»، إنه أيها السادة زمن الطبالين الجدد.
&