يوسف مكي

هل ستبادر الإدارة الأميركية مجددا لإطلاق مبادرة تمنع انفلات المارد الفلسطيني من عقاله؟ وهل ستقبل السلطة الفلسطينية بهذه المناورات، أم أن الكفاح الفلسطيني سوف يتواصل، حتى يقبل الكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين في الحرية؟

&


للمرة الأولى، منذ أكثر من عقد، تتماهى المطالب السياسية للفلسطينيين، مع موقف السلطة الفلسطينية، التي راهنت طويلا على المجتمع الدولي والراعي الأميركي، في التوصل إلى تسوية سياسية للصراع العربي- الصهيوني، تنتهي بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة بالضفة الغربية وقطاع غزة، وتكون مدينة القدس عاصمتها.


لقد مضى على توقيع اتفاقية أوسلو، التي بموجبها تم تأسيس السلطة الفلسطينية، أكثر من اثنين وعشرين عاما، وكان من المفترض أن تبدأ المفاوضات النهائية، التي تفضي لقيام الدولة الفلسطينية، المستقلة، بعد خمس سنوات من توقيع الاتفاقية في 23 سبتمبر عام 1993. لكن ذلك لم يتحقق أبدا، بسبب المناورات والتسويف الصهيوني.


وخلال ما يربو على العقدين من الزمن، أعلنت تفاهمات ومبادرات، وعقدت مفاوضات عدة في مدن أميركية وفي القاهرة وشرم الشيخ، وحدثت في مطالع هذا القرن انتفاضة الأقصى، احتجاجا على الغطرسة الصهيونية، وتدنيس المسجد الأقصى، من قبل المستوطنين وقادة "إسرائيل". لكن تعنت الكيان الغاصب حال دون تحقيق أي اختراقات عملية، باتجاه تحقيق صبوات الفلسطينيين في الحرية والاستقلال.


كان البديل الإسرائيلي هو مضاعفة بناء المستوطنات وهدم البيوت ومصادرة الأراضي، وتجريف المزارع، وبناء الجدران العازلة، وفرض قانون الطوارئ، وملاحقة المناضلين الفلسطينيين الرافضين للاحتلال. والنتيجة أن الأراضي التي يجري التفاوض عليها، من الضفة والقطاع، لا تتعدى نسبة 48% من الأراضي التي يفترض أن تقام عليها الدولة الفلسطينية المستقلة المرتقبة.


في السنوات الأخيرة تراجع اهتمام الإدارة الأميركية، التي هي الراعي والوسيط بين السلطة والكيان الصهيوني. وانشغلت هذه الإدارة بأمور تعتبرها أكثر أهمية. وكانت النتيجة أن القضية الفلسطينية لم تكن حاضرة البتة في لقاءات الرئيس الأميركي باراك أوباما مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. كما لم تكن حاضرة بأي شكل من الأشكال، في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.


لقد وجدت السلطة الفلسطينية نفسها أمام وضع لا تحسد عليه، فالالتزام ببنود اتفاقية أوسلو يتم من طرف واحد فقط، هو الطرف الفلسطيني، بينما الطرف الآخر يضرب يوميا ببنوده عرض الحائط، ويستغل فسحة الانتظار الفلسطيني ليجني مزيدا من المكاسب، متمسكا بنهجه التوسعي الاستيطاني، على حساب الحقوق الفلسطينية.


أمام هذا الواقع المر، هناك تنام واضح لتأييد القضية الفلسطينية في دول أوروبا الغربية، وفي داخل الولايات المتحدة. وقد تزامن ذلك مع قبول فلسطين عضوا مراقبا في اجتماعات الأمم المتحدة، ورفع العلم الفلسطيني فوق مبناها. وكان لا بد أن تستثمر السلطة الفلسطينية التحول في الرأي العام الدولي، بما يخدم هدف قيام الدولة المستقلة.


رفعت السلطة الفلسطينية وتيرة التهديد بإيقاف التنسيق الأمني مع العدو الصهيوني، لكن قرارا بهذا لم يتخذ بعد. إلا أن الخطاب الأخير للرئيس الفلسطيني محمود عباس في هيئة الأمم المتحدة حمل نبرة جديدة مغايرة. فقد أعلن بصراحة، أنه أمام الركود المتعمد في عملية السلام، وأمام إصرار الكيان الصهيوني على المضي في نهجه التوسعي، والامتناع عن تنفيذ بنود اتفاقية أوسلو، فإن السلطة الفلسطينية تجد نفسها مضطرة لمراجعة التزامها بتلك الاتفاقية.


يأتي ذلك وسط نهوض شعبي جديد في الضفة الغربية، واستياء من قبول حركة حماس وساطة رئيس الحكومة البريطانية السابق طوني بلير، بين حماس و"إسرائيل"، ويقاربون ما يقوم به بلير، بما قام به شمعون بيريز في بداية التسعينات من القرن المنصرم، والذي أدت نتائجه لتوقيع اتفاقية أوسلو، وتراجع الكفاح الفلسطيني من أجل التحرير.
&

إن هذا التطور في موقف السلطة له ما بعده. فالسلطة تدرك تماما أن حكومة نتنياهو، الذي ارتبط اسمه، طيلة تاريخه السياسي، بممارسات فاشية وقاسية بحق الفلسطينيين، لن يقبل بتراجع السلطة عن اتفاقية أوسلو، لأن ذلك سيهدم المكتسبات التي حققها الكيان الغاصب بالعقدين المنصرمين. إن إلغاء أوسلو يعني انتهاء دور السلطة الفلسطينية، واعتبار "إسرائيل" قوة احتلال مباشر لأراضي الضفة والقطاع. وذلك سيحمل الكيان الصهيوني مسؤوليات أمنية كبيرة، ستكلفها الكثير، في وقت ينوء فيه اقتصادها بأزمات كثيرة. ولا شك أن تزامن موقف السلطة مع بروز كتائب القسام التابعة لحركة فتح، واندلاع انتفاضة فلسطينية، ينتظر منها أن تشمل في الأيام القادمة، معظم الأراضي الفلسطينية، وتهديد بعض حركات المقاومة بتنفيذ عمليات استشهادية، كلها ستضع الكيان الغاصب في وضع لا يحسد عليه.


حتى هذه اللحظة، يبدو أن السلطة ماضية في تنفيذ قراراتها بالامتناع عن الالتزام ببنود أوسلو. وربما يكون وقف التنسيق الأمني مع العدو هو نقطة البداية، في خطوات لوح باتخاذها الرئيس الفلسطيني، ويبدو أن لا مناص من تنفيذها. ويبدو أيضا أن الانتفاضة الفلسطينية تتجه نحو التصعيد في الأيام القادمة.


هل ستبادر الإدارة الأميركية مجددا بإطلاق مبادرة تمنع انفلات المارد الفلسطيني من عقاله؟.. والسؤال الأهم هل ستقبل السلطة الفلسطينية مجددا بهذه المناورات، أم أن الكفاح الفلسطيني سوف يتواصل، حتى يقبل الكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين في الحرية والانعتاق، وقيام الدولة الفلسطينية؟! أسئلة ستتكفل الأيام القليلة القادمة بالإجابة عنها وليس علينا سوى الانتظار.
&