حميد المنصوري

لطالما كانت تركيا طوال الحرب الباردة تقف مع الكتلة الغربية من خلال سياساتها وانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي ضد التمدّد السوفييتي بما يحمل من الأيديولوجيا الشيوعية والاشتراكية، وقدمت تركيا دوراً غربياً في منطقة الشرق الأوسط من منطلقات أن تركيا تسعى إلى أن تكون دولة متقدمة على غرار الدول الغربية وأخذت تطور علاقاتها الاقتصادية والسياسية والأمنية مع الغرب، وكل ذلك تحت حراسة المؤسسة العسكرية العلمانية التركية، ومع انتهاء الحرب الباردة مات الصراع الأيديولوجي مقابل إحياء وانبعاث وبروز الهويات الاجتماعية من منطلقات إثنية ودينية وثقافية، وعاشت تركيا تبحث عن هويتها وعن دور جديد في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وقدمت نفسها في المنطقة خلال منظور اقتصادي ذي أبعاد أمنية، إلى قدوم حزب «العدالة والتنمية» 2002 الذي أراد بتركيا أن تكون سيدة الشرق الأوسط من خلال نظامها السياسي الليبرالي المحافظ وسياساتها الإقليمية والدولية، وقد استفاد «حزب العدالة والتنمية» من مؤسسات الدولة التركية العلمانية.

يقدم تواجد روسيا في سوريا بـ«حربها على الإرهاب وتثبيت نظام بشار مع مصالحها» أبعاداً دولية، تنعكس على دور تركيا، فكأن خروقات الطائرات الروسية للمجال الجوي التركي تعيد- بالنسبة لتركيا- شيئاً من حقبة الحرب الباردة، وكأنما موسكو تهدم دوراً كانت تريده تركيا في الشرق الأوسط.

&


أما الدور الجديد فيما يشبه حالة الحرب الباردة، فهو يأتي من تداعيات الأزمة الأوكرانية، التي جعلت العلاقات الروسية- الغربية «الأطلسية» في أسوأ مراحلها، فالتدخل الروسي في سوريا، ربما يعيد العلاقات إلى ما يشبه حقبة الحرب الباردة، وربما لا تكون تركيا بعضويتها في حلف «الناتو» مع أوروبا الغربية على تضاد كبير مع موسكو رغم البعد التاريخي، بل من المرجح أن تكون أكثر براجماتية، لأن تركيا ستستفيد من هذا الصراع، حيث علاقاتها بموسكو يتقدمها، أنها مستورد للطاقة ومعبر لمرور الطاقة «الغاز» من روسيا إلى تركيا ثم اليونان لأوروبا، إلى جانب أن تركيا تتطلع لإيران حليف روسيا كسوق وكمصدر للطاقة يحتاج الموقع الجغرافي التركي. وهنا الشكل الذي يشابه حالة الحرب الباردة تكون بين روسيا بأحلافها في الشرق الأوسط مع الصين ومجموعة بريكس ونفوذها في آسيا الوسطى المتصارع مع واشنطن، مقابل أوروبا الغربية والوسطى وعلاقتها مع واشنطن، ناهيك عن أن أنقرة تحمل الكثير من الخلافات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

ولعل القضية الكردية وتمددها، وعدم انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وقضية المذبحة التاريخية الأرمينية وصراع تركيا مع اليونان حول قبرص وموارد بحر إيجه، أهم المسارات التي ستؤثر في أصحاب القرار التركي. كما أن تركيا تدرك أنه من المرجح نجاح روسيا في حماية نظام بشار أو استبداله باستنساخه وبقاء مؤسساته، وكذلك تعي «أنقرة» أن روسيا اليوم أيضاً في العراق عبر محاربة «داعش» ومن خلال نفوذ وحضور إيران الكبير في بلاد الرافدين، يُضاف إلى ذلك وقوف الصين مع روسيا، الذي يمثل تحدياً آخر يقف في وجه تركيا والغرب والقوى الإقليمية المتحالفة مع المعارضة السورية بشكل مباشر. ناهيك عن أن موسكو تحاول إشراك أطراف إقليمية ودولية في الأزمة السورية ومحاربة الإرهاب، ومن هذه الدول تركيا المجاورة لسوريا، وقابلية النجاح عالية في ذلك. وثمة رسائل موجهة إلى الغرب حول قوة وحضور روسيا في الشرق الأوسط، التي بدورها ربما تستهدف التفاوض مع الغرب للوصول إلى صفقة شاملة، يكون فك العقوبات عن روسيا أحد بنودها، وإقرار بدور موسكو في أمن منطقة الشرق الأوسط.

أما عن هدم روسيا أحد أدوار تركيا في الشرق الأوسط، فالحديث هنا حول الدور الذي سلكهُ حزب «العدالة والتنمية» عبر دعم التيارات الإسلامية السُنية المتطرفة والمعتدلة، لقد فهم أصحاب القرار التركي أن الشرق الأوسط سيُعاد بناء علاقات القوى فيه عبر تفاعل وتطور العلاقات الاجتماعية للشعوب في دولها، أي أن موت الأيديولوجيات «الشيوعية والاشتراكية» جعل الدين في الشرق الأوسط محركاً اجتماعياً مؤثراً في العلاقات بين الدول من خلال تغير النظم والتفاعلات الاجتماعية السياسية والاقتصادية، وهذا هو منظور المدرسة البنائية في العلاقات الدولية، التي تهتم بفاعلين من غير الدول مثل المنظمات والمليشيات والشركات، وتؤمن بالعلاقات الاجتماعية كمؤثر مهم في العلاقات الدولية وعلى شكل ونظام وتطور الدول.

جدير بالذكر أن وصول حزب العدالة والتنمية بوجهه المحافظ والليبرالي، كان بسبب الحراك والعلاقات الاجتماعية التركية التي كشفت عن قوى بشرية تركية ريفية أخذت تتزايد في عددها ومستواها التعليمي والمهني، وتميل تلك القوى البشرية بطبيعية حياتها وعلاقاتها الاجتماعية إلى الدين والمحافظة.

وما نرميه هنا هو إدراك حقيقة أن إعادة الاستقرار في سوريا عبر الدور الروسي سيحبط إلى حد كبير تطور تلك المليشيات والأطر الفكرية الدينية في منطقة الشرق الأوسط المتفاعلة عبر ذرات اجتماعية وثقافية دينية سنية وشيعية، وله أن يزداد ذلك الاستقرار عبر دور روسي لضبط دور إيران المذهبي في المنطقة.
&