القاهرة - أمينة خيري: ثورات مصر القديمة والحديثة تقف شاهدة على ما يصدر عن الشاشات المصرية من تنويعات تعزف تارة على إيقاع الوطنية، وأخرى على معزوفة الديموقراطية، وثالثة باحثة عن السيمفونية الناقصة في المهنية المغادرة. ومنذ غادر المذيع التقليدي ذو الشكل الكلاسيكي دهاليز القنوات وحلّت محله نماذج جديدة خارجة على المألوف في عالم الشاشات، والبلاد والعباد تموج بكم هائل من الحراك السياسي والزخم الاجتماعي والترف المادي.

ويبقى الترف المادي الذي ضرب المذيعين الجدد سمة الشاشات الفضائية ذات الملكيات غير الرسمية والتوجهات غير الملزمة حرفياً بما تمليه جهات الدولة – السيادي منه والعادي- من أبرز عوامل الفجوات الناشئة بين نجوم الشاشات وقواعد الشعب العاملة بفئاتها المختلفة وانتماءاتها المتعددة. فلا يخلو حديث شعبي أو حوار جانبي بين عموم المصريين من إشارة غير بريئة أو تلويحة غير لطيفة عن أصل المذيع الفلاني الذي كان تابعاً لزعيم عربي مقتول ثم تحول إلى ثائر شعبي مفتول ثم ما لبث أن عاد أدراجه ليصبح باحثاً عن دور سياسي مزعوم، أو تلسين متخم بالخبث عن جذور المذيعة العلانية التي كانت جزءاً لا يتجزأ من نظام سياسي أسبق قامت عليه ثورة وانقلب عليه شعبه وفسد حتى فاحت رائحته، فما كان منها إلا أن جمعت خلجاتها وانتقلت من خانة النظام إلى خانة الثوار، وما أن هدأ الشعب وانقلب على الثوار، حتى عادت أدراجها لتنضم هذه المرة إلى القاعدة الشعبية.

ارتباط مشروط

على رغم التصاق القاعدة الشعبية الكبير بالشاشات الفضائية، لم يعد ارتباطها بها منزوع الشروط أو خالياً من القيود. فبعد سنوات من التقدير الشعبي والاحترام الوطني الذي قدمه المشاهدون للشاشات الفضائية بمذيعيها وما يبثونه وما ينقلونه وما يقولونه ومن يستضيفونهم باعتبار المنتج النهائي يصب في مصلحة الشعب الكادح والمواطن العامل، تنبه الأخير إلى أن من يحدثونه عن ضرورة ربط الحزام يتقاضون ملايين الجنيهات، ومن ينصحونه بتحمل انقطاع المياه أو ذبذبة الكهرباء يهرعون لطلب الغوث من الوزير لإعادة المياه المقطوعة لفيلاتهم والكهرباء المهزوزة لأجهزتهم، وهلّم جرا.

انكشاف المستور وتعرية المكتوم أديـــا إلى فجوة معنوية وهوّة نفسية بين المشاهد وأيقونته الفضائية المتمثلة في عدد من المذيعين الذين يتم تلقيبهم بـ «ملوك التوك شو». هذه الفجوة أدت إلى تراجع كبير فــي مـــقدار «المحبة» ومعيار «المعزة» اللذيـــن كانا يحملهما المشاهد البسيط والذي كان يعتبر هذا المذيع أو ذاك حامي حمى الشعب والمتحدث باسمه والناطق بحقوقه المسلوبة والمدافع عن مطالبه المشروعة. يقول العامل البسيط إن مذيعه المفضل سقط من نظره «لم يعد واحداً منا، بل تحول إلى واحد ضدنا». زميله تحدث عن أيقونته التلفزيونية التي ظن «إنها موسى فإذ بها تنقلب إلى فرعون. فبعدما كانت تسهب في الأشعار المؤيدة للحكم انقلبت عليه لأنها لم تعد مقربة له».

وتتوالى آراء ومواقف المشاهدين الذين - على رغم اختلافاتهم الطبقية والسياسية- يوحدهم توجه عام نحو التلقي النقدي لكل ما تنضح به الشاشات بديلاً من المشاهدة السلبية، أو بمعنى أدق المشاهدة غير المشروطة.

وعلى رغم أنّ دوائر المحلّلين وحلقات الاختصاصيين – ومعظمهم بالمناسبة ضيوف دائمون في القنوات الفضائية- تشير إلى فجوة ثقة كبيرة بين المذيع والمشاهد، إلا أنّ الطرف الأول ماض قدماً في طريق لا يحيد عنه. فبين إدمان سياسي سقيم، وإفتاء ثوري قبيح، وعنجهية غير مقبولة على الصعد كافة، يبدو العناد قوياً جلياً في إصرار الغالبية على اعتناق النهج نفسه الذي كان سبباً في إحداث الفجوة مع المشاهد.

طلبات المشاهد

المشاهد يحصر قائمة طلباته التلفزيونية في نقاط تتراوح بين: معلومة دقيقة، خبر يقيني، تغطية محايدة، همزة وصل بين المسؤول والمطحون، مجاهرة بالمشكلات من دون تهوين أو تهويل، متابعة للحلول من دون بطولة زائفة أو مداهنة محيرة، توقف فوري عن محاولات التهييج والتأجيج، أو جهود الاستقطاب والاستكراه، مع بعض من ترفيه. المشاهد أيضاً يقر ويعترف بأنه انجذب إلى ثورة الـ «توك شو» المتزامنة وثورة الشعب، وفورة الشاشات التي حولت المذيع إلى كائن ثوري، أو ناشط سياسي، أو ناطق حقوقي، أو مهيج ديني، أو واعظ اجتماعي. وهو يعرف أنه سقط في بئر الإثارة التي صارت مدرسة تلفزيونية حيث استضافة الراقصة اللولبية أو محاورة الفنانة الخزعبلية، أو مواجهة الدجالة النصابة. لكنّ البضاعة الرديئة تفرض نفسها إلى حين، لتنقلب على نفسها وإن طال الأمد. لكن الأمد لم يطل كثيراً، وتحول تململ المشاهد إلى مقاطعة اختيارية مرة ومعارضة جماعية مرة. ومعها تحول المذيع من نجم الفضائيات الساطع إلى نجم الهاشتاغ الساخر، وانقلبت ملكة الحوارات الساخنة إلى الساحرة الشريرة التي يطالب كثيرون بحجبها عن الشاشات.

الشاشات التي سقت المشاهد السياسة رغماً عن أنفه، وغمرت البيوت والمقاهي استقطاباً واستنفاراً واستكراهاً تجد نفسها اليوم واقفة على طرف نقيض من المتلقي. فهو يعلم أنه لم يعد في حاجة إلى جرعة السياسة اليومية المكثفة الملبدة بالتوجهات المسبقة والعامرة بالمصالح المستترة والمغلفة بأردية ثورية على أرضية فلولية. وهو على يقين بأنه في حاجة إلى تغيير وتعديل المنظومة السلوكية والارتقاء بالمستويات الاقتصادية حيث استدامة التنمية، وكل منهما يمكن للشاشات أن تلعب فيه دوراً مهماً إن توافرت الرغبة والنية. لكنه أيضاً على يقين بأن أياً منهما لا يضمن شعبية كاسحة للمذيع أو يحقق ربحية عالية للمالك أو يصنع فقاعة كبيرة من حادثة صغيرة، لذا يتوقع أن تبقى الحال على ما هي عليه حتى إشعار آخر. المهم هو أن المشاهد تخلى عن مشاهدته السلبية واعتنق مبدأ المشاهدة المشروطة.