يوسف الديني


يختلف المراقبون في حجم الفاتورة التي سيتم دفعها جراء هجمات باريس، والتي جعلت من العالم كله منطقة توتر وفوضى محتملة، متى ما وجد الدافع والثغرات الأمنية في ظل وجود خلايا نائمة وذئاب معزولة على أتم الاستعداد للقيام بدور يساهم في دعم آيديولوجية «داعش» المتنامية، في ظل فشل مشاريع الإصلاح الديني ودمج الأقليات داخل نسيج المجتمع الأوروبي.


الأكيد أن الإرهاب اليوم على رأس المخاوف الأمنية لكل دول العالم، حيث انتقل من اعتباره شأنًا داخليًا يهدف إلى تقويض الاستقرار إلى كونه أداة تحريك القضايا الإقليمية والضغط على السياسات الخارجية للدول الكبرى، وبالتالي يتجاوز الإرهاب قدرته على التغيير الجغرافي داخل مناطقه كما يحدث لـ«داعش» إلى كونه مؤثرًا وحاضرًا في أوروبا عبر مجنديه.


الفاتورة الأكبر ستدفعها الجالية الإسلامية، إضافة إلى المعتدلين والعقلاء في أوروبا، لا سيما مع صعود لغة اليمين ورفضه لملف المهاجرين، إضافة إلى استغلاله لعوامل أخرى غير الإرهاب كالتراجع الاقتصادي وتدهور الأوضاع لاجتماعية.


الحرب على «داعش» قد تكون الخطوة المرتقبة في الأيام القادمة باعتبارها أولوية الغرب الآن، لكن إعادة تحريك ملف الإرهاب كردة فعل مشابهة للحملة بعد 11 سبتمبر (أيلول)، يعيد إلى الأذهان فشل مشروع الحرب على الإرهاب متى ما اتخذ طابع الفردية والتحيّز في التعاطي معه مفهومًا وآلية عمل.


تبدأ المشكلة في توصيف الإرهاب اليوم كمنتج صنع في الخارج، بينما مع كل حادثة إرهابية نجد أن العقل الإرهابي متجاوز حتى لطرق تنميطه وفهمه، فهو مفاجئ في كل مرة بتجاوزه للنمطية، فمن كان يعتقد أن من الصعب تكريس آيديولوجيا مثل «داعش» داخل المجتمعات الأوروبية، فعليه أن يراجع كل الوثائق والشبكات على الإنترنت التي تؤكد تفوق التنظيم في التمدد أوروبيًا على تمدده في البلدان العربية، ومن يتابع التقارير القادمة من قلب المناطق التابعة لتنظيم داعش يدرك أن جغرافيا الإرهاب تعيش تحولاً كبيرًا على مستوى الاستقطاب والمناطق التي ينجح فيها خطاب التنظيم، فاللغة الفرنسية تكاد تكون اللغة الأولى بسبب حجم الداعشيين القادمين من دول أوروبية أو دول شمال أفريقيا، وتأتي دولة غير متوقعة كتونس على رأس المصدرين لكوادر هذا التنظيم رغم مسار الحالة التونسية السياسية، مما يعني خطأ قراءة مصادر تمدد التنظيمات الإرهابية وعلاقتها بالحالة السياسية، فهما مساران مختلفان تمامًا.


ورغم عدم قدرة فرنسا على دحر الإرهاب بشكل انفرادي كما هو الحال مع تجربة الولايات المتحدة سابقًا، فإن الأسوأ هو نتائج العمليات المحدودة في إعادة شحذ العقل الإرهابي على المزيد من الاستفزاز بحثًا عن الدعاية التي تعني المزيد من تدفق المقاتلين والأموال، وسيزداد الوضع سوءًا في حال بقاء الولايات المتحدة خارج إطار المشهد السياسي اليوم بشكل فاعل ومؤثر في المنطقة، فنجاح أي تغييرات حقيقية إقليميًا مرتبط بحل ملف الإرهاب أولاً وليس مجرد إرهاب «داعش» بعيدًا عن الإرهاب الذي صنعه نظام بشار ومنه صعدت كل الأصوات النشاز سنيها وشيعيها لتساهم في خلق منطقة فوضى كبيرة تعد بالمزيد من الدم.


ومع تأكيدات المسؤولين في الخارجية الأميركية كل مرة على أن نظام بشار الأسد هو السبب وراء مشكلات المنطقة، والتصريح الأكثر وضوحًا من جون كيري عقب يوم واحد من هجمات باريس، حيث أكد أن «الحرب السورية لا يمكن أن تنتهي طالما بشار الأسد باقيًا في السلطة»، في إشارة إلى الأدوار المتبادلة بين مصادر العنف في سوريا التي تعتمد على أسلوب البقاء للأعنف، ومن هنا تضمحل كل المحاولات عبر دعم أي فصيل مسلح في ظل بقاء قوة النظام في مناطقه وقوة «داعش» وحلفائها من المجموعات الصغيرة التي بدأت تنحل في التنظيم وتقاتل تحت رايته، وفي ظل تحالف متوقع لاحقًا بين التنظيم وبين مجموعات إثنية أو جهوية كالأكراد.


درس ما بعد هجمات باريس هو أنه رسخ الاعتراف بالتحولات الكبيرة التي يعيشها العقل الإرهابي، حيث انتقل من مرحلة التنظيم الشبكي المبني على مرجعية شرعية مستقرة نسبيًا ترفع شعارات ذات طابع ديني، إلا أن دخول «الإرهاب الفوضوي» الذي تقود زمامه «داعش» وأخواتها الآن هو تغير في المعادلة الداخلية لخريطة الإرهاب ورموزه ومقولاته ووعوده وجدله الداخلي.


إرهاب اليوم قضية مستقلة؛ خلايا ذكية ومعقدة ولديها قدرة هائلة على التأثير والتكتيك الحربي على الأرض، حرب الشوارع بأدوات إعلامية متفوقة تقود شبابًا مستلبًا فكريًا ومحفّزًا نفسيًا على الموت في سبيل الدولة وليس الفكرة، وهنا الفرق؛ حيث تحول المشروع الإرهابي الآن إلى مشروع مستقل.


شباب يشكلون موجات تطرف جديدة في لندن وبروكسل وضواحي باريس، يعيشون أرقى أشكال الحياة الأوروبية، لكنهم معزولون اجتماعيًا ويعانون من أزمة الاندماج التي يتنصل الغرب منها، كثير منهم متفوقون دراسيًا وناجحون عمليًا، لكنهم يفضلون ترك كل هذا والانضمام لحلم دولة الخلافة المزعومة دون أن يكترثوا كثيرًا بهراء السياسة؛ حيث الدافع الأساسي هو «الفكرة العنيفة المسيطرة» للخروج من مأزق الذات المأزومة.
&