محمد المزيني

تعد المملكة تاريخياً بوصفها كياناً موحداً وبلداً ناشئاً مقارنة بالحواضر العربية الأخرى الممتدة من المحيط إلى الخليج، ذات العمق التاريخي الضارب الجذور، فالفرق بين السعودية وبينها قرون عدة، فلم يمكنها ذلك من تكوين خصوصية تعليمية أو ثقافية، على رغم تأكيد خصوصيتها الإسلامية باعتبارها حاضنة للحرمين الشريفين، إلا أنه لم يكن كافياً لبناء الدولة، فغدت حاجتها إلى الآخرين ماسة، وحاجتها إلى الاستعانة بخبرات السابقين لها في هذا المضمار كمصر والشام ضرورة.

&

وكان هذا المؤثر الرئيس في بناء ثقافة المجتمع باتجاه حزبي خفي، إذ تداخل التعليم مع اتجاهات المعلمين، فأثر بشكل مباشر في وعي بعض الشباب بداية من الخمسينات الميلادية، فبرزت ظواهر حركية جديدة، التبست بها الثقافة وتداخلت لاحقاً في صراعات فكرية مع الاتجاهات الحديثة الناشبة في مصر تحديداً فالعراق والشام، فتأسس معها جيل جديد يؤمن بالناصرية وأفكار حزب البعث والدعوات العروبية، تلك التي تأسست بتأثيرها جبهة التحرير الوطني في السعودية، فكانت كالفاجعة التي أعلنت نفسها.

&

وللخلاص من هذه اللوثة عززت لدى الشباب مبادئ وقيم الإسلام، فكانت الفرصة متاحة للإخوان للقيام بهذا الدور، فناضلت لأجل بقائها مستبدة بتوجهات الشباب، فحيدت الثقافة وسيرتها لتصب اتجاهاتها.

&

حوربت الحداثة بضراوة حتى أُسقطت، لتخلو الساحة برمتها لهم، يديرون دفة الثقافة والفنون كيفما يشاءون، فرَّغت عقول الشباب من كل شيء سوى الدين بصورته السلفية الجهادية الجديدة، فأصبحوا على مرمى قريب من استهداف القاعدة لهم، وهذا ما حدث عملياً، فانساق الشباب زرافات ووحداناً لدعوات القاعدة، بعدما لاقت هوى لديهم.

&

بعد كل هذا التأسيس المتين، واستلاب عقولهم وتأجيج أرواحهم للجهاد، حتى استبد بهم وأغلقت أمامهم منافذ العودة إلى حياة السلم والاستقرار، وظلوا منساقين تماماً لغواية الدعوة لدولة الخلافة.

&

وآمنوا بشكل مطلق لكل قادات التطرف، وهذا ما جعلهم يكفرون بالمنظومات الحديثة متجاذبة المصالح مع الغرب جملة وتفصيلاً.

&

لذلك فإن أدنى موعظة لهم بالعودة إلى الصوب يعد في نظرهم ضرباً من السذاجة، خصوصاً لمن أطلقوا عليهم اصطلاحاً لتمييزهم والتنفير منهم «فقهاء السلاطين»، مشمولة بعدد من الأوصاف الأخرى كالمداهنين الموغلين بأكل الأموال الحرام، ومظللي الأمة الإسلامية المتطلعة لذلك.

&

اليوم، لا يجد الإرهابي نفسه سوى مصلح جهادي وضع في حسبانه أنه سيواجه بكل ألوان الرفض والمجابهة، ووطدها على تحمل ما سيأتي وكلما أمعن في الضغط عليه بشكل من الأشكال يتأكد له عمق رسالته، وأنه على الحق، ولو قرأنا في أسفارهم - أعني الكتب التي ينهلون منها تعاليمهم - ككتب سيد قطب وفتحي يكن وغيرهم، لفهمنا عمق نفسياتهم المتجهة بكل الأحوال إلى العنف، وأن استعدادهم للموت أقرب من قبولهم للحياة التي في كل ما يظهر لهم منها أنهم هم المختصون بالله العارفون به، وما أجسادهم سوى مادة تحجزه عن الوصــــــــول إلى الجنة ونعيمها من الحور العين، لذلك فهم لا يقابلون الناصحين إلا بآذان صماء، لا يثيرون فيهم سوى التهكم والسخرية.

&

وبما أن المجتمع السعودي مجتمع محافظ، ونضيف إليه أنه مجتمع تلقائي فطري بسيط. تجربته في الحياة تجربة فلاحية ريعية لا تبتعد كثيراً في تقويمها للأشياء عن المسلمات المطلقة، والدين في نظرها مقدم على كل شيء، وأي داع له هو بمثابة نبي مرسل له من القداسة ما للدين مباشرة.

&

لم ينفتح المجتمع السعودي على تجارب الأمم الأخرى، خصوصاً في التربية والتعليم، بعدما انتقل المجتمع السعودي من كونه مجتمعاً قروياً وريفياً وبدوياً، إلى مجتمع ينفتح على المدينة ومظاهر الحداثة في العمارة والملبس والمأكل والمشرب، التي بدت أقرب إلى القبول منها إلى التعليم، فجاءت المقررات منغمسة تماماً بالقيم الدينية التي لم تخل من تحريض دائم ومستمر على الجهاد، ثم لاحقاً كما ذكرنا سلم إلى «الإخوان المسلمين» الذي غرسوا في عقول بعض الطلاب تعاليم حسن البنا، وأسسوا من خلالها لمدرستهم السعودية التي بدأت في الخفاء تعزز قيم الخلافة الإسلامية، وتضرب بالقيم الوطنية عرض الحائط، وتزهدهم بقياداتهم ووطنهم، لذلك أصبح بعض الشبيبة جاهزين نفسياً وروحياً لكل ما يأمر به القادة السعوديون الجدد، الذين تشبعوا بالمدرسة الإخوانية جيداً، وانطلقوا يقودون المسيرة بكل حنكة واقتدار، حتى استولوا على عقول البعض، وحركوهم تالياً وفق إرادتهم باتجاه القاعدة، ثم إلى «داعش»، ولم يمنع انخراط بعض الشبيبة الصغار في مضمار الجهاد المفتعل، لاستناده على أسس وقيم راسخة تم تدويرها عبر الأجيال المتعاقبة المتأثرة بكل ما حولها من وعي جهادي.

&

لقد تم خلال ما يقرب من 40 سنة تجريف كامل لعقول بعض الشباب وزرع قيم بديلة، حتى استكملت العملية بغسيل كامل للأدمغة، وخطر هذه العقول المغسولة أنها متصلة بالروح مباشرة، تلك التي يمثلها الشيخ القائد المباشر.

&

إزاء هذا الواقع الذي يفجعنا في كل مرة بإرهابي جديد، علينا التفكير بحلول واقعية وعملية، لاستخلاص جيل كامل من ويلات الإرهاب، ولعل منها:

&

أولاً: التغيير الجريء لمناهج التعليم وطرائقه، تلك المحصورة في كتاب ومعلم داخل فصل مغلق يجلب على الهم، ثانياً: إعادة تدوير الفنون البصرية المختلفة كالمسرح والتشكيل والتصوير، ثالثاً: الاستماع إليهم جيداً، وتحليل كل ما يفوهون به وتدوينه، وتوفير كل ما يتماشى مع طاقاتهم العقلية والروحية والجسدية، رابعاً: توفير الثقافة البديلة، من خلال تمرير بعض الكتب المدروسة جيداً من خلال نخبة مفكرين، ومفكرين جدلية تنقل فكرهم من الاستسلام المطلق إلى الأسئلة الجدلية التي ستفتح لعقولهم نافذة على الوعي وفهم الحياة بشكل صحيح، وبها سيتم سحبهم تدريجياً مع الوقت المتاح لهم إلى عالم القراءة والجدل والوعي.

&

بذلك قد نستطيع استعادة العقول المفقودة في دهاليز جنون الإرهاب وربطه برسن متصل بوعي جديد ومختلف، يفهم ويقدر معنى الإصلاح خارج لعبة الاستقطاب المشمولة بالشكوك الموضوعة تحت حدي التفسيق والتكفير.
&