محمد الساعد

قبل أكثر من 70 عاماً اشتبكت اليابان مع الولايات المتحدة، وقامت بقصف قاعدة بيل هابربر الأميركية، كانت الضربة صاعقة ومهينة، وراح ضحيتها آلاف القتلى الذين غدرت بهم البحرية اليابانية في ظلمة الليل، في خضم هذه الحرب الشرسة قام الأميركان بعمل جنوني وغاضب ملقين قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناجازاكي، وبعدها بسنوات دخلت الولايات المتحدة في حرب شرسة مع الفيتناميين قتل فيها مئات الآلف من الطرفين.

&

وسبق الجميع حربان عالميتان، خاضت فيها الإمبراطوريات الألمانية والإنكليزية والعثمانية والروسية، المهيمنة على العالم - في ذلك الوقت - حروباً طاحنة، أسفرت عن ملايين القتلى ومثلهم من المشردين والجرحى.

&

لكننا لم نسمع أن الفيتناميين ولا اليابانيين ولا الصرب ولا الفرنسيين ولا النمساويين، قاموا بعمليات انتحارية، أو فجروا أنفسهم في مقهى يرتاده أحفاد أحفاد الألمان أو الأميركان أو أي من أعدائهم السابقين، ولا أظن أننا سنسمع أنهم حملوا أبناء من حاربوهم وزر تلك الصدامات التي ذهبت وذهب وزرها مع أهلها.

&

لقد دفنوا آلامهم وأحقادهم مع موتاهم، تركوها هناك في القبور، إذ يجب أن تبقى المشاعر السيئة والأحقاد والثأر والضغينة، وإذ يجب أن تستمر الحياة بالمشاركة وتبادل المنافع والمصالح، ها هم اليوم يتسيدون العالم ويقتسمون نجاحاتهم، وينمون بلدانهم، فهم يعيشون عالم اليوم بعلاقات اليوم وتدافع اليوم، لا يسألون عن فواتير الماضي ولا عن من يجب أن يدفعها.

&

اليوم يفرح ويتشفى ويبرر الآلاف من العرب والمسلمين بالفرنسيين ومن قبلهم بالإنكليز والأسبان والأميركان، بما فعله الإرهاب في أبنائهم ونسائهم وأبريائهم، بل ويجدون المتعة في ذبحهم والتشنيع بهم. وإذا كاشفتهم، فتشوا في دفاترهم القديمة، المليئة بروائح الدم والحقد ما يبرر لهم: بأن الطفل الفرنسي المقتول في مسرح باتاكلان الباريسي، كان جد جد جده مقاتل في الجيش الفرنسي، وأن الأسباني القتيل في قطارات مدريد، كان تاسع جد له يعيش في الدولة العربية في الأندلس، التي أضاع ملكها أمير عربي، قالت فيه أمه: «أبكي كما تبكي النساء ملكاً ضيعته ولم تحافظ عليه كالرجال»، ليتحمل ذلك الطفل وزر صراعات ملوك الطوائف ومجونهم وضعف إدارتهم، وكيف أنه وأباه لم يحافظا لملوك الطوائف على ملكهم الذي فرطوا فيه.

&

اليابان لم ترد على أميركا اليوم بـ«قاعدة الظواهري» ولا بـ«داعش» ولا بـ«جبهة النصرة» بل ردت بحضارة يصعب القفز عليها، وصناعة لا يمكن مقاومتها، والفيتناميون يبنون أيضاً بلدهم حجراً حجراً، وها هم اليوم في عداد نمور الاقتصاد القادمون بقوة في العقدين القادمين، والفرنسيون تجاوزوا مع الإنكليز مذابح الألمان في عواصمهم، ويعيشون اليوم حلفاء.

&

أما العرب فهم أسرى لمعركة الجمل قبل 1400 عام، كما هم أسرى لكل ما تلاها من حروب وصدامات، انتصرنا في كثير منها وخسرنا بعض منها، لكن بعضنا للأسف لا يزال مصراً على أن يدفع أبناء اليوم دماء سفكت قبل مئات السنين.

&

العقل العربي عقل غريب الأطوار، فإذا تفاعلت وتألمت لإنسان باريس أو لندن أو مدريد أو نيويورك، ذلك الآدمي البسيط الذي لا يشتغل بالسياسة، وليس له علاقة بجنرالات الحروب، يقفز مباشرة إلى ضميرك، طالباً منك تقديم «منفيستوا الولاء والبراء»، لكل القضايا التي لا يتعاطف هو بالضرورة معها، من دون أن يسمح لك أن تتعاطف إلا مع القضية التي تناسب مزاجه العنصري.

&

والسؤال لأصحاب «ذاكرة الفسطاطين، وموت بموت» هو من يمنح حق اللجوء والإقامة والإعاشة والتعليم والصحة لملايين المهاجرين العرب والمسلمين لأوروبا سنوياً.

&

من سير ملايين المتظاهرين ضد الحروب التي وقعت في بلداننا، من وقف مع السعودية والكويت عندما حاول العراق احتلال الكويت وحاول اجتياحنا، من وقف مع الأفغان ضد الروس، من قصف الصرب حماية للمسلمين في البوسنة والهرسك، ضد المسيحيين الصرب، من أدخلهم في محكمة لاهاي وسجنهم؟ إنه الضمير!
&