أيمـن الـحـمـاد

لسنا هنا في معرض الحديث عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، أو "الوهابية" كما يطلق الغرب عليها لتشويهها والتنفير منها، أو تناول تراثها ومناقشة ظروف الدعوة الإصلاحية التاريخية والثقافية أو التعريج على نتائجها ومآلاتها، بقدر ما نحن اليوم نناقش تناولها في الإعلام الدولي باعتبارها أحد مسببات التطرّف الذي يشهده الشرق الأوسط، وانعكس سلباً على الأمن في الدول الغربية.

لم يدرس عبدالحميد أباعود - العقل المدبر لاعتداءات باريس - في إحدى المدارس السعودية، وربما لم يزر مكة والمدينة، بل كان طالباً متفوقاً تخرج من مدرسة "سان بيير دوكل" أفضل ثانويات بلجيكا، حيث تلقى تعليماً علمانياً هناك لمناهج يغيب عنها الدين وتركّز على احترام الحريات والمعتقدات، وبالرغم من ذلك انحرف أباعود صوب التطرف ليغدو أحد رؤوس تنظيم "داعش" المتطرف في أوروبا.

ومثل عبدالحميد أباعود كُثر نشأوا في بيئة أوروبية غربية خالصة، وبعضهم أوروبي أباً عن جد في أجواء تشيع فيها الديموقراطية والمساواة والحداثة وجميع مظاهر الدولة المتحضرة والسويّة، لكنهم في لحظة ما قرّروا الانتقال إلى التطرّف؛ دفعهم لذلك أسباب عدة منها: فشل الدول الغربية في إدماج المهاجرين والأقليات في المجتمع الأوروبي، ما أدى إلى إقصائهم وحفّز على استقطابهم وتوظيفهم واستغلال جهلهم بالدين من قبل المتطرفين الذين يقدمون لهم خطاب التطرّف كخيار وحيد.. يساندهم في ذلك - وهذا أحد الأسباب المهمة - دعم الأنظمة الغربية دون قصد لخطاب الكراهية ضد الغربيين وغير المسلمين في بلادهم تحت ذريعة حرية التعبير، وترْك المساجد دون رقابة ما حوّل بعضها إلى بؤر لتفريخ المتطرفين.. فترْك شخصية متطرفة كأبي حمزة المصري يخطب في شوارع لندن ويحرّض على الكراهية لسنوات طويلة، ثم تكتشف السلطات البريطانية خطره لتبعده إلى أميركا هو نتيجة سياساتها الخاطئة.. ثم إن أحد أبرز أسباب شيوع التطرّف هو السياسات الخارجية المترددة والمجحفة وغير الواقعية للدول الغربية التي اعتقدت أنها بمعزل عما يجري، ولم تتوقع وجود عالم سفلي خطير في عواصمها تديره جماعات تطرّف ديني في الداخل والخارج تخزّن السلاح والقنابل وقاذفات الصواريخ والأموال وتجنّد وتحرّض على العنف، والذي يرى الاستنفار الفرنسي والبلجيكي يزداد يقينه بأن الغرب أساء فعلاً تقديره للخطر الإرهابي، ويحصد ما زرعت يداه نتيجة للسياسات المرتجلة والعبثية في العراق وسورية، وليس ذلك فحسب؛ بل إن ترْك القضية الفلسطينية عائمة بهذا الشكل هو أحد أهم عوامل عدم الاستقرار في المنطقة، فالقضية تُركت ليمتطيها كل حمالي الشعارات والأيديولوجيات من مناصري اليمين واليسار على حد سواء.

فالتطرف كأيديولوجيا موجود لدى أتباع الديانات، وحتى لدى معتقدي بعض الفلسفات الوضعية، ونسأل هنا عن الملف الأسود للحروب الصليبية ومحاكم التفتيش واضطهاد البوذيين للمسلمين اليوم في بورما، والجماعات المتطرفة والإرهابية في أوروبا الحديثة مثل النازية وأبنائها كحركة "بيغيدا"، والألوية الحمراء في إيطاليا، وكل تلك الممارسات إنما خرجت من رحم التوتر السياسي، وعدم اتخاذ القرار الصحيح تجاه الأزمات التي تمر بها الدول والأقاليم.

ويلتفت الغرب اليوم بعد أن طرقت الهجمات الإرهابية بابه، ليفرض قوانين الطوارئ، ويفتش المارة في الشوارع، ويحظر السير في ساعات معينة، وكلها سياسات لن تجدي نفعاً إذا لم يتم التعامل مع بواعث التطرف في الشرق الأوسط وأبرزها الطائفية التي تغذّيها إيران عبر سياساتها، وتدخّلها المسلح في سورية وعدد من الدول، ثم يأتي الغرب مع الاعتراف الكامل بدعم طهران للإرهاب ليصافحها بحجة أن الحوار معها أفضل من مقاطعتها.

إن من الضروري أن نشير إلى أن استهداف دعوة الشيخ ليس الغرض منه الدعوة بحد ذاتها فقط، بل القصد منه الإضرار بالمملكة كدولة، والنيل من سمعتها، وهي الدولة التي تحتضن الحرمين الشريفين وتوليهما وزوارهما عناية دون التفريق بين المذاهب والطوائف، بل تحتضن الجميع ولم تستخدم هذه المكانة لتأليب المسلمين على غير المسلمين، بل دعمت مبادرات حوار الأديان والثقافات.

تقول الإحصائيات الموثقة الصادرة عن المنظمات الغربية إن أكثر عناصر داعش يحملون الجنسية التونسية، ويقدر عددهم بثلاثة آلاف شخص.. والسؤال: كيف تحوّل هؤلاء التونسيون الذين نشأوا ودرسوا في مدارس كانت تُراقب من قبل النظام التونسي السابق الذي عُرف بشدّته الأمنية وعلمانيته، ليخرجوا في غضون عام أو عامين متطرفين؟.. لا تقولوا لنا إن السبب دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب.

لا يمكننا بأي حال من الأحوال إلا أن نقول إن التطرّف هو نتاج سوء إدارة المنطقة سياسياً.. لذا فإن القضاء على هذا الفكر لن يتأتّى دون إخماد النار المشتعلة في سورية وتجفيف منابع الطائفية البغيضة.
&