سمير عطا الله

جميع تحولات وأعاصير أوائل القرن الماضي نسبت إلى التنازع على إرث الإمبراطورية العثمانية التي سميت «رجل أوروبا المريض». وتقاسمت بريطانيا وفرنسا أشلاء الإمبراطورية المهزومة قطعة قطعة، مثل قالب سهل من الحلوى. تفرعت أسماء جديدة عن الجغرافيا القديمة. قُلِّمت سوريا، وزيد العراق، ورُكِّبَت تركيا جديدة، وبدأ ضياع فلسطين.


وحل الانتداب البريطاني والفرنسي مكان حكم «الباب العالي». وبدل «المتصرف»، وهي كلمة متعالية، عُيِّن «المفوض السامي»، وهو مصطلح استعماري ليس أقل تعاليًا، لكن الانتدابين في سوريا والعراق، والحكم البريطاني في مصر، جعلا السلطة المحلية نظامًا برلمانيًا على غرار دول المنشأ. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، خرج الانتداب من المشرق، وصار «المفوض السامي» سفيرًا بريطانيًا أو فرنسيًا. وعرفت دول المنطقة نوعًا من حكم القانون بدل «المتصرف»، وبدأ العلم ينتشر في البلاد، ولم تعد الطباعة محظورة كما كانت أيام الأتراك، باعتبار المعرفة خطرًا هدامًا، والثقافة خرابًا.


كما أدى «مرض» تركيا إلى البلبلة، يؤدي «تعافيها» الآن إلى متغيرات شديدة في المنطقة. الدول التي منعت قيامها في السابق تبرز الآن كيانات مهمة، كالأكراد، والتركمان الذين ذابوا في العراق وسوريا، يبرزون الآن كيانًا محتملاً، ومن أجلهم أسقط السلطان طائرة روسية ووضع العالم على حافة المواجهة. وعادت تركيا تدخل أراضي الجوار عسكريًا كأنها في دارها. طبعًا، ليس كل ما يجري سببه تركيا، لكن مع نحو مليوني سوري في أراضيها، ومع الآلاف الذين تفتح أمامهم البحر نحو أوروبا، ومع لعب دور المواجهة مع الروس وإعادة فتح القواعد أمام الأميركيين، يبدو الدور التركي مفصليًا في الرسومات الجديدة للمنطقة، التي قد تتحول إلى خرائط صامتة، يتغير فيها ما فوق الأرض من دون أن تتغير الأرض نفسها.


أبرز حدث «عالمي» منذ بداية الحرب في سوريا، كان قرار تركيا بإسقاط قاذفة روسية. فهي لم تفتح الأجواء بلا حدود مثل لبنان الذي لم يُسأل حتى رأيه في الأمر، ولا نسقت «عدم التصادم» كما فعلت مع إسرائيل، بل قررت أن توجه ضربة أليمة إلى دولة لا تزال الجبار الثاني، أو الجبار الآخر في حسابات العالم.


وبما أن أميركا وأوروبا تقفان إلى جانبها في وضوح من خلال الالتزام الأطلسي، فإن هذا أخطر عمل منذ نهاية الحرب الباردة، التي يبدو، في آخر المطاف، أنها كانت نهاية خادعة.
&