&عبد العليم محمد

فى تاريخ العالم العربى الحديث من الصعب الفصل بين تأثير الداخل وتأثير الخارج، على مختلف جوانب التطور السياسى والاجتماعى والاقتصادى والثقافى، ومصدر هذه الصعوبة يكمن فى موقع العالم العربى الحيوى الذى يتوسط بين آسيا وإفريقيا وأوروبا، ويطل على أهم البحار والمحيطات، ويشتمل بين ظهرانيه على أهم الممرات الدولية البحرية التى يتم عبرها التبادل التجارى بين أرجاء المعمورة.

ولهذه الأسباب مجتمعة ينفرد العالم العربى بامتزاج بتأثير الداخل بتأثير الخارج، الأول بما يشمله من بنى اجتماعية وثقافية ونظم اقتصادية وسياسية ونخب وفئات اجتماعية مختلفة والثانى متمثلا فى القوى الكبرى الفاعلة فى النظام الدولى وتأثيراتها الثقافية والاقتصادية ومصالحها وتنافساتها على النفوذ والهيمنة.

ربما يكون ذلك هو الأساس الذى يستند إليه الخطاب المعادى للغرب فى العالم العربى والذى يجنح نحو تحميل الغرب جميع الأوزار والمساوئ التى تعترض طريق العالم العربى نحو التطور والنمو، وذلك لا يمنع من القول بأن ثمة خطابا آخر وإن كان أقل تأثيرا يتجه فحواه نحو الداخل العربى بمكوناته الاجتماعية والتاريخية والثقافية وقصور هذه المكونات وقصور النخب الحاكمة عن استيعاب الواقع العربى وتحديد المبادئ والخطط التى تكفل التطور الداخلى وتمهد الطريق له.

الخطاب الأول المعادى للغرب والذى نحمله جميع مآسينا يبدو أكثر رواجا وأكثر سهولة، فهو غير مكلف لأنه مشتبك مع طرف آخر، قد لا يسمعه أو إذا سمعه لا يهتم به، لأنه باختصار بعيد ويبدو كما لو كان طرفا افتراضيا، ومن ناحية أخرى فتبنى هذا الخطاب يعفى صاحبه من الاشتباك مع الداخل وما يضمره أو يعلنه من ظواهر وأنماط تفكير وثقافة وفاعلين فى المجال العام، وأخيرا وليس آخرا فهذا الخطاب يضمن قدرا من الشعبية والوطنية، ويزيح مؤقتا المسئولية عن كواهلنا وذواتنا إلى حين ويحفظ للذات طهارتها وسموها.

فى الآونة الأخيرة ومع امتداد يد الإرهاب الآثمة إلى باريس ولبنان ومالى وغيرها من البلدان، تم استدعاء الخطاب المناهض للغرب وإدانة دور الغرب فى تشجيع الإرهاب وتغذيته واستخدامه ضمن أفق السياسة الخارجية الغربية، فضلاً عن ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، واستهدف هذا الخطاب رغم صحته النسبية تدعيم التواطؤ الجمعى والفردى حول مسئولياتنا كدول وشعوب وحكام فى إنتاج الظاهرة الإرهابية.

ولسنا بصدد نزع المصداقية عن الخطاب المناهض للغرب، فالكثير من مقولات هذا الخطاب ومفاهيمه تبدو صحيحة، رغم تجاهل هذا الخطاب للدعم المادى والمعنوى الذى قدمته بعض الدول الغربية لمصر بعد الثلاثين من يونيو خاصة دولة كفرنسا التى جندت نفسها للدفاع عن موقف مصر فى الاتحاد الأوروبى بعد الثالث من يوليو عام 2013، ومن ناحية أخرى فإن هذا الخطاب يتجاهل أن الغرب أكبر شريك تجارى لمصر وأن شراكة تربطنا بالدول الأوروبية فضلا عن ذلك تطور الثقافة الغربية نحو حقوق الإنسان والديمقراطية والمساواة بخلاف العهد الكولونيالى الاستعمارى الذى تأسس على ثقافة الاستعلاء والعنصرية وإخضاع الرجل غير الأبيض وغير الأوروبى.

ما أود قوله هو أن استدعاء الخطاب المعادى للغرب فى مختلف القضايا قد لا يكون بالضرورة مفيدا لنا، فى حين أن التركيز على الخطاب الذى ينبع من الداخل ويتوجه لمكوناته بالنقد والتحليل هو الخطاب الذى يضعنا فى مواجهة أنفسنا وذواتنا فرادى وجماعات، نظما وشعوبا، ويضع بالتالى خريطة طريق للمستقبل تتأسس على الصراحة والشفافية وتجنب الانتقائية والازدواجية خاصة عندما يتعلق الأمر بالظاهرة الإرهابية

والسؤال الأول فى هذا الخطاب يتمحور حول لماذا ارتبط الإرهاب فى موجاته منذ 11 سبتمبر عام 2001 بأفراد وجماعات تعلن انتماءها للإسلام والمسلمين وتتصدر المشهد الإعلامى باعتبارهم واعتبارها طلائع المسلمين الذين يمتلكون حق الجهاد وقتل الأبرياء، لماذا يرتبط العنف والإرهاب والجهاد بجاليات إسلامية فى مختلف بلدان العالم؟ ولماذا تتعثر هذه الجاليات فى الاندماج بالمجتمعات التى تقيم بين ظهرانيها وانتهاج الطرق السلمية فى الدفاع عن المساواة والمواطنة والحقوق.

أما السؤال الثانى فيتعلق بلماذا أصبح العالم العربى أكبر بيئة منتجة للإرهاب فى الشرق الأوسط وأكبر حاضنة للتطرف والإرهاب سواء بالدعم المالى أو الفكرى أو العقيدى.

فى الإجابة عن هذين السؤالين قد تتحدد حدود مسئوليتنا عن الإرهاب، ذلك أن الجاليات الإسلامية فى أوروبا وفى غيرها هى ضحية التقصير من قبل الحكومات والدول والمؤسسات الدينية الرسمية فى العالم العربى والتخلى عن مسؤولياتها فى تعزيز فرص تعايشها فى الخارج وحسن إدارة شئون دينها وعقيدتها وتعزيز مناعة هذه الجاليات ضد اختراق العناصر التكفيرية والإرهابية وحث هذه الجاليات على تبنى الأساليب السلمية والديمقراطية فى المطالبة بحقوقها ومنع التمييز ضدها والاقتداء بحركة الحقوق المدنية للأمريكيين من أصول إفريقية الذين يعانون التمييز، ولكنهم ينتهجون السبل الديمقراطية التى تكفل لهم احترام مطالبهم وتعاطف الآخرين مع هذه المطالب، إن صلة المواطنين لا تنقطع ببلدانهم الأصيلة بمجرد الهجرة أو الامتناع عن العودة بل يجب أن تستمر هذه الصلة وأن تتخذ أشكالا مؤسسية للدفاع عن حقوقهم وتحصينهم ضد التطرف والإرهاب.

أما على الصعيد الداخلى فإن جذور العنف والإرهاب الداخلية تتمثل فى سوء إدارة التنوع العرقى والدينى والطائفى وعجز النخب الحاكمة عن إقرار القانون والمساواة وثقافة التعايش واحترام التنوع، عجزت النخب الحاكمة من كبار البيروقراطيين والعسكريين والفئات المتحالفة معهم عن إيجاد مناخ مؤات للتنوع والمطالب المختلفة كما عجزت عن إيجاد روح الدولة المدنية الوطنية الديمقراطية باعتبارها المؤسسة الوحيدة القانونية والدستورية التى تكفل الحفاظ على التنوع فى إطار الوحدة والمساواة فى إطار المواطنة.

وبموازاة ذلك عجزت الدولة الوطنية عن إيجاد وابتكار نظام تعليمى يقوم على تنمية الملكات النقدية والعقلية والابتكارية، وتدعيم ملكات التفكير النقدى، وكيفية إنارة الأسئلة وتعزيز المهارات والملكات المنطقية فى القدرة على الاستنتاج والاستقراء والمسكوت عنه وتعلم أسس ومنهجية النقاش والجدل الفكرى وتعزيز حقوق الاختلاف فى الرأى والتصورات، واعتبار ذلك جزءا لا يتجزأ من منهجية التعليم الحديث القائم على أسس علمية، وليس ذلك النظام التعليمى الذى يقوم على الحفظ والتلقين والخوف من الاختلاف.

إن ذلك جزء من كل يتوجب علينا أن نجيب عليه بصراحة قبل أن نطلب من الآخرين أو الغرب أن يتحمل مسئولياته فى مواجهة الإرهاب إن دورنا فى هذه المواجهة قد يسبق الغرب، وتغييب هذه المسئولية ليس من مصلحتنا.