&فهمي هويدي

&
لا أعرف إلى أي مدى يمكن أن نأخذ على محمل الجد فكرة لجنة الأخلاق والضمير التي أثيرت في اجتماع الرئيس عبد الفتاح السيسي في اجتماعه الأخير مع مجلس العلماء والخبراء المصريين. صحيح أنه ليس هناك قرار في الموضوع، إلا أن الثابت أن مسألة تشكيل اللجنة طرحت، واقترح لها أن تلحق بالرئاسة، وقد أبرزتها عناوين الصحف التي صدرت يوم الخميس 26/١١، بعدما ذكرها المتحدث باسم الرئاسة في تلخيصه للموضوعات التي عرضت أثناء الاجتماع الذي عقد يوم الأربعاء، كما أنه حرص على أن يسجل رأي الرئيس السيسي في الموضوع الذي عرضه بقوله: إن منظومة القيم والأخلاق في المجتمع تعد الحاكم الأول لسلوك المواطنين.. كما أنها تقوم بدور جوهري في تقدم الشعوب والأوطان، وتمثل حافزا ووازعا لمزيد من العمل والإنتاج، فضلا عن نشر الرقي والتحضر في جميع مناحي الحياة.
عند الحد الأدنى فإن الرئيس لم يعترض على فكرة اللجنة وأنه أكد أهمية الدور الذي تقوم به الأخلاق والضمير، ولأن الفكرة طرحت دون اعتراض أو تحفظ من جانبه، كما ذكرها المتحدث باسم الرئاسة ضمن الموضوعات الحيوية التي أثيرت في الاجتماع، وأبرزتها عناوين صحف الصباح، فإننا نصبح بإزاء كلام لا نستطيع أن نتجاهله. ورغم أن الاجتماع أثيرت فيه موضوعات أخرى عديدة، تعلقت بالتعليم والصحة، إلا أن مسألة لجنة الأخلاق والضمير حظيت بالنصيب الأوفر من الإبراز الإعلامي ومن تعليقات مواقع التواصل الاجتماعي التي استعرض فيها ظرفاء المصريين مواهبهم، حتى أن أحدهم تساءل عن الدور الذي ستقوم به الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة في العملية، باعتبار أن الرئيس يعتمد عليها في مختلف مشروعات الشأن العام.
من حيث الشكل، لي على الفكرة عدة ملاحظات ألخصها فيما يلي:
< أنها تتعامل مع موضوع فضفاض ليس في عناوينه فحسب، وإنما في تعريفه أيضا، لأن مسألة القيم والأخلاق فيها جانب نسبي، بحيث إن ما يعد منها إيجابيا مع مجتمع معين قد يصبح سلبيا في مجتمع آخر.
< أننا درجنا في مصر على أن من يريد أن يقتل موضوعا أو يرحله إلى المستقبل المجهول، فإنه يشكل له لجنة تتولى المهمة.
< أنه بعد اجتماع الرئيس مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمناقشة الملفات المهمة المحلية والإقليمية، فإنه بدلا من أن يلتقي بالسياسيين ليتشاور معهم في تلك القضايا، فإنه اجتمع مع بعض الشخصيات العلمية المحترمة التي طرحت أمامها العناوين سابقة الذكر، التي لم يكن الشأن السياسي وتحديات المرحلة من بينها.
< أن تشكيل لجنة لأجل القيم والأخلاق فيه تبسيط شديد للموضوع، يربطه بإجراءات يتعين اتباعها ويفصله عن مجمل البيئة الاجتماعية والسياسية التي تشكل فيها القيم. وذلك ينقلنا إلى الشق الأصعب في الموضوع الذي لم يتوقف فيه الجدل بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة والقانون. وكنت قد تطرقت إلى الفكرة في كتابي «التدين المنقوص» الذي صدر قبل أكثر من ربع قرن، وأفردت فيه فصلا عنوانه «الحكومة وأخلاق الناس»، أشرت فيه إلى الجدل الدائر بين رجال القانون والفلسفة حول طبيعة العلاقة بين القانون والأخلاق والتفرقة بين الأخلاق الخاصة والأخلاق العامة والمدى الذي تقف عنده مسؤولية السلطة في أخلاق الناس.. وهل كل ما هو غير أخلاقي يصبح غير قانوني بالضرورة. وهو ما أجبت عنه بالنفي، حيث لا يمكن ولا ينبغي أن يتم التطابق بين الأخلاق والقانون، إذ لا تستطيع السلطة مثلا أن تجرم كل الكذب إلا في حالات وحدود معينة.
مما تطرقت إليه أيضا فكرة الدور الذي يقوم به أداء السلطة بما تمثله من قدوة في صياغة القيم المساندة في المجتمع، وهو ما تختزله العبارة الشهيرة التي تقرر أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. في إشارة صريحة إلى أن دور السلطة في تقويم الناس يتجاوز دور القرآن ذاته بكل جلاله. بمعنى أن النموذج الذي تقدمه السلطة يلعب دورا أساسيا في إعلاء شأن بعض القيم أو الحط من قدرها. وهو ما عبر عنه الفيلسوف الفرنسي هلفيتيوس في القرن الثاني عشر، عندما قال إن التفاعل بين المجتمع والسلطة ذو اتجاه واحد، فالشعب لا يؤثر في طبيعة السلطة وإنما تؤثر السلطة في خصائص الشعب وأخلاقه.
هذا المعنى عمقه وأصله عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير طبائع الاستبداد، إذ خصص فيه فصلا عالج فيه مسألة الاستبداد والأخلاق، وآخر عن الاستبداد والتربية. وفي الفصلين ذكر أن أجواء الحرية والعدل والمساواة تمثل البيئة الصحية التي تنمو فيها الفصائل وتترعرع. أما الاستبداد فهو مفسدة كبرى تدعو الناس إلى الانحطاط والتسفل، ومما قاله: «إن الاستبداد يضطر الناس إلى استباحة الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل، وإلى مراغمة الحس وإماتة النفس ونبذ الحد وترك العمل.. إلى غير ذلك من الخصال الملعونة».
إن تهذيب الأخلاق وتنقية الضمائر أكبر بكثير من أن تنهض به لجنة، وهي مسؤولية دولة تعلي من قيم العدل والحرية والمساواة، من ثَمَّ فقبل أن ندفن الملف في لجنة، علينا أن نتحقق أولا من التزام الدولة بتلك القيم، وكل جهد يبذل خارج هذا النطاق يتعذر أخذه على محمل الجد.