أيمـن الـحـمـاد

لم يكد ينتهي رئيس الاستخبارات الفرنسية السابق برنارد باجوليه من كلامه وقوله أمام منتدى في جامعة جورج واشنطن إن الشرق الأوسط الذي نعرفه قد انتهى إلى غير رجعه، حتى وقعت اعتداءات باريس التي راح ضحيتها 130 شخصاً.

أحدثت هذه العملية الإرهابية حالة من الذهول والتشويش، والحيرة التي بدت واضحة على وجه فرنسا.. الدولة التي تفخر بتفردها الثقافي وإرثها الفرانكفوني، وموقعها السياسي والاقتصادي في أوروبا والعالم، ونتيجة لتلك الحالة تم فرض حال الطوارئ واستُدعي الجيش لينزل الشارع، ويفرض تدابير استثنائية، ولتلحق بفرنسا دول أوروبية كثيرة هالها ما أصاب باريس يوم الثالث عشر من نوفمبر، فطفقت تنشر مدرعات ورجال أمن بشكل يوحي لنا بأن تلك المدن تتوقع أمراً لا تعلم من أين يأتيها، وتعكس تلك التدابير حالة من السبات التي كانت تغط فيها هذه الدول لتستيقظ على جريمة باريس.

وبعيداً عن مسببات هذا الهجوم، وقريباً من تداعياته، ينكشف لنا حجم التغير الكبير والمفاجئ الذي يطرأ على فرنسا التي ترفع شعاراً وطنياً بثلاث كلمات «حرية - مساواة - أخوة» تعتبرها باريس بمثابة الثوابت الوطنية التي تفخر بها، لكن ما مدى إمكانية استمرار تلك الشعارات، وقدرتها على الصمود أمام محك الأحداث التي تمر بها فرنسا، فضلاً على صمود شعارات أخرى وثوابت في عدد من الدول الأخرى الأوروبية.

الواقع يقول إن أوروبا وتحت تأثير المتغيرات الحاصلة بدأت تعيد النظر في عدد من الوقائع على مستوى نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الثقافي، وفي إطار واسع يشمل علاقاتها الدولية وتحالفاتها.

فتحتَ تأثير وقع الهجمات والتهديدات بدأت تنظر اليوم بشكل مختلف نحو المواطنة، وإمكانية سحب الجنسيات من المنتمين إلى دولتها وذلك بسن تشريعات تخوّل قيام مثل هذا الأمر، إضافة إلى إعادة النظر في بعض قوانينها المتعلقة بالهجرة، وبعض ثوابتها الدستورية المتعلقة بهذا الموضوع، كما وينسحب تحت هذا الأمر اتفاقياتها المنظمة للدخول الخروج من منطقة الاتحاد الأوروبي، وإعادة قراءة اتفاقية «شنغن» في ضوء المتغيرات الحاصلة، كما والشأن المتعلق باقتصادياتها والأحمال المالية المترتبة على مواضيع تتعلق بتعزيز الأمن واستيعاب المهاجرين، ويصل الأمر إلى الخوف من ثقافتها وهويتها في ظل التغير الحاصل على التركيبة السكانية وتأثيراته الاستراتيجية على تلك الأمم، لاسيما وأنها تعاني في الأساس من مشكلات «انقراضية» إن صح التعبير. ولا يمكن إغفال تأثير هذه الأحداث على تحالفات الدول الأوروبية ورؤيتها تجاه علاقاتها، وإعادة قراءتها لبعض القضايا، والنظر لها بمنظور مختلف، فالصدمة التي تعرضت لها فرنسا وأوروبا فيما بعد ربما تجعلها تعيد التفكير في علاقتها مع الدول الأخرى تعزيزاً أو تقليلاً.

هذه الاختلاجات أو الاضطرابات يجب أن تدفعنا كذلك لإعطائها ما تستحق من التمحيص والتفكير واتخاذ القرار بناء على هذه المعطيات سواء التي تمر بها المنطقة من أحداث أو تأثيرها على قرارات الدول الأوروبية.

الحقيقة اليوم أن أوروبا التي طالما تغنت بقيمها تبدو في مأزق تلك القيم، وما يخفف عليها ذلك ويدفع مواطنيها للتماهي مع المتغيرات الحاصلة أنها تصب في مصلحته الأمنية، لذا فلا معترض اليوم من الأوروبيين في التضييق على حرياته ولا حالة استياء من إخضاعه للتفتيش في الطرق والشوارع إن كان الهدف منها صيانة أمن المواطن الأوروبي وحمايته.
&