تركي عبدالله السديري

في الخمسينيات والستينيات الميلادية وما بعدها بقليل كانت دول مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة والصين من أفقر دول العالم، بل كان عدد فقراء الصين ضعف سكان العالم العربي.. كان العالم العربي في تلك الفترة يمتلك بنية تحتية راقية من جامعات كبرى وصحافة متقدمة ونشاط ثقافي وفني لم يكن متوفراً لدى كثير من الدول.. وبعد تلك السنوات بقليل نجد دولاً أفريقية وبعض آسيوية أخرى كانت تفتقد كل القدرات.. لكن عند المقارنة نجد في المقابل بعد تلك السنوات حقيقة تقدم تلك الدول، وتخلّف أكثرية العرب للأسف، والسبب بكل بساطة توجّه العرب للفكر الثوري بدلاً من الفكر التنموي المدعوم بالإيمان بالحس الوطني..

لم تكن دول مثل سنغافورة أو كوريا الجنوبية تتساهل أمنياً عندما يمس الأمر لديها الانتماء الوطني، لذلك لم تسمح للأفكار الأممية والشيوعية بالتمدّد والتوغّل.. وللأسف كان العالم العربي ومثقفوه يفاخرون بالأفكار غير الوطنية، ويروّجون لها، ويصفون كل من يخالفهم بالرجعية والتخلّف، لذلك عاش بعض العالم العربي في ثورات وخصومات مع الجميع، والنتيجة الآن حروب أهلية وظهور منظمات إرهابية بسبب ضعف الحس الوطني وغياب التنمية..

الاستثناء الوحيد في العالم العربي هو لدول الخليج التي ركّزت على تنمية شعوبها وتعزيز الحس الوطني بين مواطنيها، أيضاً عزّزت دول الخليج تعليم أبنائها بابتعاثهم إلى أفضل الجامعات، مع التوسّع بالوجود الجامعي المتنوّع التخصصات، كذلك أيضاً توسع الإنفاق التعليمي، لأن أساس كل دولة هو مواطنوها، واستقرار كل مجتمع ونموه هو عبر استقرار دولته وصدق انتمائه الوطني..

وإذا كان أن المملكة قد أثبتت جزالة حضورها العلمي والثقافي والوعي السكاني فإنها الدولة التي مرّت بمراحل قريبة وصارمة في تنوّع القدرات وسرعة الزمن وكفاءة ما تمكنت من فرضه لذاتها من حيادية وابتعاد عن كل آخرين بما كانت تعمله من خطوات تاريخية كي تنتقل من عصر القرى وبساطة الإمكانيات إلى حقيقة وصولها كأهم دولة عربية تحظى بثقل إقليمي واحترام دولي..

أنا أذكر ومازلت أعرف كيف كانت طفولتي تواجه نتائج جوع الوجبتين فقط في الأربع والعشرين ساعة، وكيف أن «المرقوق» وما يسمى بالطحين قبل معرفة «الرز» هو كل ما يُعرف بالتغذية، وكيف أن الاتجاه بعد صلاة العشاء طبيعي للوصول إلى النوم في بيت الطين في مدينة كانت قرية هي الغاط وبجانبها ما يماثلها كالزلفي والمجمعة..
&