&حسن أبو طالب

قبل ساعات محدودة من افتتاح قمة المناخ فى باريس التى يشارك فيها 147 رئيس دولة، عبر الرئيس التركى أردوغان عن أسفه وحزنه حيال إسقاط الطائرة الروسية يوم الاثنين الماضي، معتبرا أن فرصة اللقاء مع الرئيس الروسى فى باريس يمكن أن ترمم العلاقات بين البلدين بعد أن أصابها التوتر. وبشكل ما يمكن النظر إلى هذه التصريحات باعتبارها نوعا من الاعتذار وإن كان غير مكتمل الشكل والمعني، وهو ما طالبت به روسيا من قبل كنوع من الترضية السياسية والمعنوية قبل احتواء أثار حادثة إسقاط الطائرة الروسية. ومعروف أن الرئيس التركى طلب لقاء بوتين، ولم يُظِهر الكرملين أى رد فعل سلبيا أو إيجابيا. وعلى صعيد الاحتمالات فمن الراجح أن يحدث اللقاء بين الرئيسين، وإن كان من غير الضرورى أن يؤدى إلى احتواء التوتر، كما تأمل أنقرة، خاصة فى ضوء التحركات ذات الطابع الانتقامى التى اتخذتها روسيا بالفعل من قبيل وقف السياحة الروسية لتركيا، ووقف استيراد المواد الغذائية التركية، وكذلك فى ضوء الشعور العام فى روسيا بأن تركيا قد أصابت الكبرياء الروسى فى مقتل، وتقوم بدور مضاد جملة وتفصيلا للجهود التى تقوم بها موسكو من أجل حل المشكلة السورية سياسيا بمشاركة تركيا نفسها ودول أخري.


لقاءات الرؤساء فى مثل هذه الظروف التى تمر بها العلاقات الروسية التركية قد تساعد فى السيطرة على دائرة الفعل ورد الفعل والتى قد تتطور إن تركت على حالها إلى منعطف خطير يضر الطرفين ضررا بالغا، والأهم أن يُستبعد احتمال المواجهة العسكرية المفتوحة نظرا لما تحمله من مخاطر كبيرة على الطرفين معا يصعب تصورها، مع ملاحظة أن أنقرة تعد الأكثر إلحاحا على احتواء رد الفعل الروسى بالوسائل الدبلوماسية حرصا على مصالحها الاقتصادية والتجارية واسعة المدى مع روسيا.وحتى مع افتراض أن اللقاء الرئاسى تم بالفعل وقدم فيه الجانب التركى نوعا من الترضية المعنوية، فإن العودة فى التو واللحظة عن الإجراءات الانتقامية النسبية ذات الطابع الاقتصادى والتجارى والسياحى التى أقدمت عليها روسيا لن يحدث كما يأمل الأتراك، والمرجح أن تستمر هذه الإجراءات لفترة أخرى كنوع من الضغط على انقرة لكى تعيد حساباتها فى العديد من تحركاتها بشأن الأزمة السورية ككل خاصة تحركات إنشاء منطقة آمنة فى الأراضى السورية تحت الوصاية التركية المباشرة، والتى من شأنها أن تؤسس لتقسيم سوريا، وترفضها روسيا تماما.

لقد أدى إسقاط الطائرة الروسية إلى إدخال عنصر جديد فى منظومة العلاقات الروسية التركية وهو عدم الثقة من قبل موسكو فى القائمين على شئون الحكم فى أنقرة، وهو ما يلخصه تعبير الرئيس بوتين بأن بلاده طُعنت من الظهر من طرف كان يُظن به أنه صديق. فضلا عن كشف أبعاد التورط الرسمى التركى فى دعم تنظيم داعش الإرهابى ماليا وتسليحيا، والعلاقات التجارية لأبناء أردوغان نفسه بقيادات داعش. وهى العلاقات التى وثقتها من قبل وسائل إعلام تركية، ثم كان نصيبها أن أفُلست وأغُلقت وسُجن القائمون عليها بتعليمات مباشرة من الرئيس أردوغان الذى كَبّل الصحافة التركية بقوانين وتشريعات لا تتيح وجود الحقائق الخاصة بالأدوار التى يلعبها أبناء اردوغان نفسه فى الشأن العام رغم أنهم لا يتمتعون بمناصب رسمية. وفى العديد من التحليلات التى نُشرت فى وسائل إعلامية روسية ما ينبئ بأن الكرملين يتوقع الكثير من ضربات الخيانة من أطراف تم التعامل معهم كأصدقاء، وينبئ أيضا بأن تحركات موسكو سوف تتجه للاعتماد أكثر على الذات وعدم توقع الكثير من أصدقائها المفترضين، وفى الوقت نفسه التحسب الشديد لما يمكن أن تقوم به دول إقليمية تعادى السياسات الروسية تجاه الأزمة السورية. بل اشتملت بعض هذه التحليلات على تصورات لما يمكن أن تكون عليه أى مواجهة عسكرية بين روسيا وتركيا، وهنا طالب محللون روس بأن يتم استخدام الأسلحة النووية منذ اللحظة الأولى لتدمير كل مفاصل الجيش التركى وإصابته بالشلل التام، فى حين طالب آخرون بأن يكون العقاب العسكرى تقليديا ومتدرجا وهدفه وضع تركيا فى حجمها مقارنة بالقوة العسكرية الروسية. وفى كلا التصورين تضمن قدرا من الاستعداد لرد فعل الناتو إن تدخل لمساعدة تركيا أو أرتضى رد فعل رمزيا وحسب. ومثل هذه التحليلات لا تخلو من رسالة مفادها أن موسكو تفكر فى كل الاحتمالات وتستعد للأسوأ وعلى تركيا أن تراعى ذلك.

وفى الصحافة التركية نفسها خاصة المحسوبة على الرئيس أردوغان وحزبه ما يشير إلى أن هناك محاولة للتغطية على الخطأ الجسيم الذى اقترفه الجيش التركى حين أسقط طائرة روسية لم تكن تشكل أى نوع من الخطر على الأمن التركي، وفى الوقت نفسه تبرير العملية باعتبارها دليلا على يقظة تامة واستعدادا للدفاع عن سيادة الوطن مهما كان الثمن. ولم يَغبِ عن صحافة الحزب التركى الحاكم الإشارة إلى أن روسيا سوف تخسر الكثير إن تمادت فى عقوباتها الاقتصادية بحق تركيا، وأن مشروعها الاستعمارى فى سوريا وتدخلها العسكرى قبل شهرين محكوم عليه بالفشل لاسيما وأنه متأثر بحسابات إيرانية بالدرجة الأولي، وأن على الكرملين إن أراد الفوز أن يتقبل تماما الرؤية التركية بشأن سوريا ما بعد الأسد.

هذه النماذج مما يُقال فى صحافة البلدين، فضلا عن تصريحات المسئولين الروس، فإنه يؤشر بدوره إلى اتساع عدم الثقة بين قيادتى البلدين، وأن كلا منهما سوف يستمر فى نهجه الخاص إما بتقييد التأثير التركى على مسار الحركة العسكرية فى الأراضى السورية والتى تشهد تحسنا فى أداء الجيش السورى فى مواجهة الجماعات المسلحة، وإما فى اتجاه تعظيم الثمن السياسى والمعنوى الذى تدفعه روسيا جراء حملتها العسكرية فى سوريا. وأيا كان الاتجاه الذى سيسود فمن الواضح أن الاحتواء الرمزى لتداعيات إسقاط تركيا لقاذفة روسية لن يُحد من التأثيرات السلبية الفعلية والمادية على علاقات البلدين من جانب، وعلى مسار التسوية السياسية للأزمة السورية من جانب آخر. فمثل هذه الأزمات وفى ظل بيئة سياسية تتسم بالضبابية وتداخل الفاعلين فى سياقات متناقضة تماما، تصبح تسوية الأفعال الجانبية ذات الدلالة بالنسبة للرأى العام الداخلى مسألة شديدة التعقيد، وتظل الحاجة قائمة بأن يكون رد الفعل أقوى من الفعل ذاته.