مأمون فندي

كلما رأينا حادثا بشعا كأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، أو أحداث لندن 7/7/ 2005 أو أحداث باريس، أو جزّ الرؤوس على الملأ في شاشات التلفزة، تساءلنا (نحن قبل غيرنا): هل لدينا ثقافة متطرفة بالفطرة، أم أن التطرف عارض تاريخي في الثقافة العربية يمكن تغيير مساره؟ وإن كان كذلك، فعلى رأي سيد قطب، ما هي تلك «العلامات على الطريق» التي رأينا فيها مدا للتطرف أو جزرا؟ وهل التطرف عرض لمرض أم هو نتيجة لسبب؟ أي أن هناك منبعا لنهر التطرف من أفكار سافرت عبر الحدود مصبها عندنا. وهل يمكن بناء سد كسد أسوان العالي يحتجز خلفه التطرف، أم إن التطرف سمة من سمات انهيار النظام السياسي في الدولة أو علامة عليه؟
السؤال كبير ويعتمد على خصوصية كل دولة من دول عالمنا العربي، وتحدد العلامات حسب كل حالة. ولكن هناك عموميات كاشفة، ليس لأنها تغطي كل المساحات، ولكن لأنها تكشف مشتركات. هل للتطرف خط بياني مثل نظرية النشوء والارتقاء لدارون؟ أي إن الإنسان تطور من كائن أدنى، ثم مر بمراحل تطور حتى أصبح إنسانا أو استقام عوده، وبهذا تكون بذرة التطرف التي نمت في بيئات مختلفة أوصلتنا إلى ما نحن فيه من تطرف شامل وكامل؟ أم إنها تشبه نظرية ستيفن جي غولد عالم البلاينتولجي أو نشأة الكائنات، القائلة بأن تطورا ما حدث، ثم حدثت بعده كارثة انتهت معها كل الأشياء وبدأت بداية جديدة، أي لا علاقة بين عالم الديناصور مثلا وعالم الحيوانات الأخرى، وبذلك يمكننا القول إنه لا علاقة بين نص متطرف قديم، وعقل متطرف حديث؟
إذا أخذنا مصر بين الخمسينات والستينات من القرن الماضي كحالة، لا بد أن كثيرا منا يذكر داخل عائلته أن الأب والأم كانا أكثر انفتاحا على العالم من الأخ والأخت، وأن تيار التطرف حتى الستينات كان تيار أقلية في المجتمع، وأن كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» الذي كان يدعو المصريين إلى تعليم أبنائهم وبناتهم كما يعلم الأوروبيون أبناءهم وبناتهم، كان كتابا أكثر شهرة من كتاب سيد قطب «معالم في الطريق» الذي ينقم على المجتمع ويدعو لبناء مجتمع إسلامي كما يتخيل عقل سيد قطب ما هو الإسلام وكيف عاش المسلمون الأوائل. بينما كان يدعو طه حسين لتقليد عالم أوروبي بمدارسه وجامعاته في ذلك الوقت، كان عقل سيد قطب يهرب إلى ماض متخيل ومنقول بألف واسطة وواسطة. وفي الحقيقة إن المعركة ما بعد الستينات بين الدولة والمجتمع على روح مصر، يمكن القول إن هذين الكتابين يمثلانها كتشبيه مجازي.


فإلى من انحازتْ الدولة المصرية والمجتمع المصري؟ هل انحازا إلى طه حسين، أم إلى سيد قطب؟ في وهج معارك طه حسين مع تيار التخلف، نجد أن السلطان حسين كامل مثلا وقف ضد قرار المتطرفين في البرلمان الذين أرادوا إلغاء بعثة طه حسين إلى فرنسا عام 1915. تلك الفترة التي كانت تتبلور فيها حركة الإخوان في الإسماعيلية عام 1926، والتي لم تجد لها موطئ قدم في المركز في القاهرة ووجدته في الأطراف تدريجيا. كانت رمزية انتصار تيار التنوير على تيار التخلف، في تعيين طه حسين وزيرا للمعارف (التعليم)، ولك فقط أن تقارن بين وزير للتعليم مسؤول عن تربية النشء مثل طه حسين، ووزراء تعليم جاءوا وذهبوا في مصر لم يتركوا أثرا إلا إدخال معارك الدولة ومشكلاتهم الشخصية في مناهج التعليم والتي أدت إلى الكارثة التي نراها اليوم. طبعا الأسباب كثيرة لماذا انحازت الدولة إلى عالم سيد قطب، على حساب عالم طه حسين الذي كان يدعو للتنوير والذي وصمه محدودو المعرفة بتيار التغريب، وتلك الوصمة ما زالت قائمة لدى كثير من تيارات البلطجة السياسية التي تسوق لسيادتهم المجتمع، عن طريق الجهل والتخلف على أنه حفاظ على الهوية.


تدريجيا وفي عالم تنقصه الشرعية السياسية والتراضي بين الحاكم والمحكوم، ظن الحاكم أن الشارع لتيار التطرف، وتراضى بتقسيم العمل: الدولة للحاكم، والمجتمع بمدارسه وجامعاته للمتطرفين، وكان ذلك واضحا في عهد حسني مبارك أكثر منه في عهد أنور السادات حيث كانت بداياته. إذ تركت المدارس والجامعات للمتطرفين، حيث كانت في سبعينات القرن الماضي تحدث مهازل مخالفة للقانون ولا يعترض أحد، منها ما كان يفعله شباب الجماعة الإسلامية من ممارسات ضد الطلاب. كان يحدث ذلك على مرأى من البوليس الذي لم يتدخل لحماية مواطن من عنف مواطن آخر. البلطجة والعنف اتخذا من الدين غطاء. وهذا يأخذنا إلى فكرة فشل الدولة وفشل السياسي مما أدى لإنتاج التطرف، أي أن التطرف عرض لمرض وهو الانهيار الأكبر لمؤسسات الدولة.


عندما تنهار الشرعية تلجأ الدولة إلى عصابات الفتوات مثل الإسلاميين وغيرهم، وعندما تختلف أجندتهم عن أجندة أهل الحكم يستعين أهل الحكم كما في روايات نجيب محفوظ بفتوة آخر يحميهم من عنف الفتوة السابق، وهكذا تنتقل الدول من الانحياز إلى البلطجة تحت غطاء الدين، إلى بلطجية آخرين يلتحفون الوطنية الكاذبة، وهم يمثلون أسوأ ما في المجتمع من تفاهة. وكما كان الإسلاميون يستولون على المدارس والجامعات والتلفزيونات، يتم استبدال ذلك بتيار جاهل من الغوغاء والجهلة. نفس الحلقة الجهنمية المغلقة؛ لا مكان لطه حسين، فإما سيد قطب وتياره المتطرف، أو تيار من يمثلون أسوأ ما في الإعلام والثقافة من قيم التنصت على البشر وإذاعة تسجيلاتهم أو تيار الردح باسم الوطنية. وطبعا في دولة مائلة لا بد لها من عكاز تتكئ عليه.


التطرف بيئة نحن ننتجها وانحيازات سياسية تقوم بها الدول، ولكنّ خليطا من الحياء والخوف يمنعنا من أن ننطق بالحقيقة، وللحديث بقية.
&