مجاهد عبدالمتعالي

الشريعة ليست حاكمة على الدين، بل الدين حاكم على الشريعة، وداعش جعلت الشريعة حاكمة على الدين فكان منها ما استبشعه الناس، المسلمون وغير المسلمين، لأن الدين ضمير واحد وفطرة فطر الناس عليها تميز الخير من الشر

&


يسألك أحدهم لو جاء جراح مسلم حافظ للقرآن، وجراح وثني، فمن تتركه يعمل لك العملية؟ المسلم أم الوثني؟ سؤال الدين في الدنيا يضيع الدين والدنيا، فما دخل المهارة والخبرة الطبية في الدين، فمن كان ماهراً في صنعة الطب بخبرة شاهقة في فنه، فإن الكل يبتغيه أملاً في الشفاء وتجنب الأخطاء، ويبقى الدين شأنا شخصيا لا أثر له على مبضع الجراح ليصبح أنعم أو أمهر أو أدق، ومثله أسئلة كثيرة تخلط الدين بالدنيا متناسين (أنتم أعلم بأمور دنياكم).


يخلطون الدين بالشريعة كي يضربوا الدين في قلوب المسلمين في كل بلدان العالم، فالشريعة ليست ركناً في حق المسلم الأميركي المقيم بأميركا، ولا ركناً في حق المسلم الصيني أو الفرنسي أو الكندي أو البرازيلي، إنما الدين قائم بهم ما قاموا بأركانه الخمسة، وما عدا ذلك فلا يطعن في دينهم أن لا يعملوا به، وهنا مفصل (الحاكمية) الذي يتهرب كثير من علماء الشريعة أن يوضحوه للناس، فالحكم لله كما الملك لله لا فرق بينهما، وكما أن سليمان صار ملكاً في الأرض ولم يناقض ملكه في الأرض ملك الله الأبدي، فكذلك حكم الناس الزماني لا ينقض حكم الله الأزلي، وإلا لأوجبنا على مليار مسلم أن يركضوا وراء البغدادي يبايعوه عطشاً لإقامة الحاكمية في صورتها التاريخية المستحيلة.


الدين غير الشريعة منذ عرفنا أن القاضي يحكم بالشريعة فنعترض على حكمه بلائحة اعتراضية نرفعها لمحكمة الاستئناف، ولو اعتقدنا أنه يحكم بالشريعة (بمعنى الدين) لاعتقدنا في القاضي النبوة وعندها نكون ملزمين في حق القاضي بقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) عندها ندرك أن الدين لا يفسده خبر عابر عن قاض لم يكن أهلا للقضاء، ولا رجل ملتح احتال على الدهماء برقية شرعية يبلغ سعر علبة الماء المقرئ فيها مئة ريال!!، فالدين أعلى من هؤلاء، ولكنهم اغتنموا خلط الدين بالشريعة، لأن الشريعة قد تصيب وتخطئ، ولهذا نبه نبي الرحمة بقوله لا تقل أنزلكم على حكم الله (فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وأصحابك).


الشريعة اجتهاد قرره الفقهاء، ولهذا فإن من جاء الرسول وقد أتى امرأته في نهار رمضان، لو جاء في زمننا هذا لناله من الشريعة ما لم ينله من الدين على يد النبي الكريم، فلو قال أحدهم: (وهل أصابني ما أصابني إلا من الصيام) كما فعل الصحابي لقالت له داعش وأمثالها: هذا إلحاد وإنكار للفريضة وحكمت عليه بالقتل، فكيف والرسول الكريم جعله يعود بالكفارة ليأكلها هو وأهل بيته إذ عرف أنه فقير معدم، تلك رحمة الدين وسعته، وما عداها فشريعة ضرورية يقوم بها الناس صيانة لبعضهم من التعدي بين إفراط وتفريط، ويبقى التشريع مدار أخذ ورد وقبول ومعارضة، ولهذا اعترف الفقهاء الأولون في أصول الفقه بمسألة الشمولية في الشريعة وأنها أحياناً تحتاج المدد من الشرائع الأخرى، أو أنها امتداد لها، على خلاف واسع بينهم وضعوا له باباً أسموه (هل شرع من قبلنا شرع لنا؟)، فكيف نجيب من يسألنا عن حكم الرشوة في الشريعة؟! ولهذا احتجنا نظام الرشوة، وعقوبة وأد البنات في الشريعة؟ ولهذا احتجنا نظام العنف الأسري، فالدين كامل لا نقص فيه، فقد حرم كل هذه الأمور، ولكنه ترك تجريمها لعقول البشر تفرض فيها ما تشاء بتغير الزمان والمكان، كما هو معلوم عند العلماء عن الفتوى وتغيرها بتغير الزمان والمكان، ولا تناقض أبداً إلا عند من يخلط بين (دين الله) واجتهادات البشر بمسمى الشريعة.


تبقى إشارة صغيرة فالمقاصد الدينية هي وحدها من دين الله ولهذا قيل: (حيث ما يكون العدل والمصلحة فثم شرع الله)، أما التفاصيل التقنية القانونية لهذه المقاصد فبشرية بامتياز، ولهذا أدرك عمر أن مقصد الدين ليس في قطع الأيادي، فأوقف حد القطع عام المجاعة، فالشريعة ليست حاكمة على الدين، بل الدين حاكم على الشريعة، وداعش جعلت الشريعة حاكمة على الدين فكان منها ما استبشعه الناس، المسلمون وغير المسلمين، لأن الدين ضمير واحد وفطرة فطر الناس عليها تميز الخير من الشر، وما دامت ضميرا عاما فلن يؤيدها المتطرفون لأنهم يريدون فرز المسلمين كما يشاؤون ولن يستطيعوا الفرز إلا بالشريعة، كتفاصيل ينقلها كل ذي عصبية عن شيخه ومذهبه، فينشئوا شريعة ودولة يقطع فيها سارق العلن سارق السر، ويجدوا لسارق المليار من مسقطات الحدود ما لا يجدونه لسارق الشاة، وكله باسم الدين، والدين أعلى وأسمى من اجتهادات الفقهاء المتنوعة في الشريعة، ويبقى الدين لله والشريعة للبشر، ولن يسأل الله المسلمين في أنحاء الأرض عن يدٍ لم يقطعوها أو ظهرٍ لم يجلدوه أو رقبة لم يقطعوها، لكنه سيسألهم عن دينهم في الإحسان بينهم وبين الناس بينهم وبين الله، ولهذا لم يرد في القرآن عن أوصاف المكذبين بالدين أن يكونوا بلحية أو بغير لحية بثوب طويل أو قصير، بل قال تعالى: (أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين)، إنما الدين الأخلاق تسمو بالأمم، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا، ولهذا كان انكشاف سوءتنا الأخلاقية، إذ قرر بعض المسلمين أن الموت غرقاً باتجاه أمم أخرى غير مسلمة مراهنين على أخلاقها، خير من بقائهم بيد داعش وشريعتها التي بلا خلاق.
&