&فهمي هويدي

&

&في الاشتباك الحاصل بين موسكو وأنقرة ثمة جوانب مسكوت عليها، بعضها يتصل بالداخل الروسي والبعض الآخر يهم حسابات الموقف المصري.

الكل مشغول بتداعيات ما جرى، إذ إنه منذ أسقط الأتراك لأول مرة منذ أكثر من ٥٠ عاما طائرة «سوخوي» الروسية، (في ٢٤/١١) صار الحدث خبر الأخبار الذي حجب كل ما عداه. حتى صار «مالئ الدنيا وشاغل الناس»، وهو الوصف الذي أطلق على شاعر العرب الأعظم أبو الطيب فالمتنبي الذي قيل عنه حين سطع نجمه في قضاء العرب إنه حجب ألف شاعر في زمانه، فلم يعد يذكرهم أحد.
الجميع يترقبون ويتحسبون، حيث تحولت الأغلبية إلى متفرجين، في المقدمة منهم حلف الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ولم يبقَ على مسرح المواجهة سوى الرئيس فلاديمير بوتين الغاضب والمستفز. وواضح للجميع أنه مشغول بالرد دفاعا عن سمعته وكبريائه، ومعه حلفاؤه الإيرانيون والسوريون على الأقل. والرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يحاول الآن احتواء آثار قراره، خصوصا ما كان اقتصاديا منها، وهو مؤيد أدبيا وسياسيا فقط من جانب الولايات المتحدة ومعتمد على مساندة حلفائه السعوديين، والقطريين.
الصدمة في روسيا لم تخطر لهم على بال، فقد توعد بوتين تركيا برد قاس بدأ بإجراءات المقاطعة والعقاب على الصعيد الاقتصادي، إلا أن رئيس الحزب الليبرالي فلاديمير جيرونيوفسكي ــ أحد الغلاة ــ دعا إلى إلقاء قنبلة ذرية على إسطنبول، أما نائبه ورئيس لجنة الصحة بالدوما (البرلمان) دعا إلى مقاطعة الشاورما وكل المقاهي والمطاعم التركية.
ورغم أن التداعيات لم تتبلور بعد، إلا أنه من المؤكد أن حدث إسقاط الطائرة سيمثل نقطة تحول، ليس فقط في علاقات البلدين الكبيرين، روسيا وتركيا، ولكنه مرشح أيضا لكي يصبح نقطة تحول داخل الاتحاد الروسي ذاته، وفي منطقة الشرق الأوسط أيضا، وهذه مسألة مسكوت عليها في الوقت الحاضر، ولذلك كأنها تحتاج إلى بعض التفصيل والدليل.

التدخل الروسي في سوريا أثار استياء قطاعات واسعة بين مسلمي منطقة القوقاز بوجه أخص، إضافة إلى مسلمي آسيا الوسطى الذين كانوا ضمن الاتحاد السوفييتي السابق. فهؤلاء المسلمون الذين يتوزعون على جمهوريات الشيشان وداغستان وأنجوشيا، إضافة إلى طاجكستان وأوزبكستان وغيرها، اعتبروا تدخل موسكو في سوريا انتصارا لنظام علوي طائفي ضد الأغلبية السنية التي ينتمون إليها، إضافة إلى أن تحالف روسيا مع إيران في مساندة نظام دمشق بدا اصطفافا إلى جانب الشيعة في مواجهة أهل السنة، وحين اشتبكت موسكو مع أنقرة، فإن ذلك اعتبر توسيعا لنطاق المواجهة مع دولة سُنية كبيرة متحالفة مع السعودية، ولأن المسلمين الروس (عددهم ٢٠ مليون نسمة) لهم ذكرياتهم المريرة، سواء تحت الحكم الشيوعي أو في ظل هيمنة الكنيسة الأرثوذوكسية، التي باركت التدخل في سوريا وساندت سحقهم، خصوصا في الشيشان وأنجوشيا، فقد استفزهم موقف حكومة بوتين، أضف إلى ذلك أنهم تعاطفوا من البداية مع تنظيم داعش الذي قدم إليهم على أنه انتصار لأهل السنة واستعادة لنظام الخلافة الإسلامية. يستوقفنا في هذا السياق التقرير الذي نشرته صحيفة الشرق الأوسط في ٢١/١١ نقلا عن خدمة صحيفة نيويورك تايمز، وتضمن معلومات مهمة عن أبناء القوقاز الذين يحاربون إلى جانب داعش في سوريا والعراق، إذ ذكر أن ألفي مقاتل من إقليم القوقاز التحقوا بالتنظيم من بين ٧ آلاف مسلم في روسيا ودول الاتحاد السوفييتي السابقة انخرطوا في القتال إلى جانب تنظيم الدولة. وبعض هؤلاء هاجروا مع زوجاتهم وأولادهم إلى ما اعتبروه دولة الخلافة الإسلامية. صحيفة الحياة اللندنية نشرت في ٢٠/١١ أن مقاتلي دول آسيا الوسطى الذين انضموا إلى داعش يقدر عددهم بأربعة آلاف شخص، على رأس هؤلاء جول مراد حليموف قائد القوات الخاصة في الشرطة الطاجيكية الذي كان من السابقين للانضمام إلى «داعش».بوتين ونظامه لم ينسوا ما تعرضت له روسيا من هجمات انتقامية قبل عشر سنوات، على أيدي المقاتلين الشيشانيين الذين دمر الجيش الروسي مدينة جروزني عاصمة بلادهم، إذ طالت هجماتهم المدارس والطائرات وأحد المسارح وخطوط المترو في موسكو. هذه الخلفية تثير مخاوف سلطات موسكو من تداعيات استنفار المسلمين الروس الذين يقاتلون في صفوف داعش، والآثار التي يمكن أن تترتب على عودتهم إلى بلادهم. هذا الكلام ليس مجرد استنتاج، لأن الصحافة الروسية تحدثت في أوائل شهر نوفمبر الفائت عن أن هيئة الأمن الفيدرالي في جمهورية أنجوشيا عثرت على مخابئ تضمنت نحو أربعة أطنان من المواد المتفجرة، وذكر ممثل الأمن في الجمهورية أن تلك المخازن تابعة لمقاتلين بايعوا تنظيم الدولة. وقد عثروا فيها أيضا على عبوات متفجرة جاهزة للاستخدام، منها ٧٠ برميلا بلاستيكيا سعة كل منها تتراوح بين ٥٠ و١٠٠ لتر، في الوقت ذاته أعلن عن أنه عثر في أنجوشيا على مختبر لتصنيع العبوات الناسفة. أشارت الصحافة الروسية أيضا إلى أن جهاز الأمن الفيدرالي في موسكو ومقاطعتها عثروا على كميات كبيرة من الأسلحة تبين أنها تعود لأنصار مجموعة مقاتلة تدعى كتيبة «أزوف» الأوكرانية. الشاهد أن وجود الروس في سوريا واشتباك موسكو مع أنقرة إذا حقق بعض الأهداف الإستراتيجية المهمة للقيادة الروسية، إلا أنه قد يستصحب طورا من التوترات العنيفة داخل الاتحاد الروسي، لن تكون مقصورة على منطقة القوقاز وحدها، ولكن موسكو لن تكون بعيدة عنها.

موقع مصر في التجاذبات الراهنة يتطلب وقفة خاصة، إذ تؤثر فيه وتحكمه عدة عوامل، هي:
١ــ إن القاهرة تعارض إسقاط الرئيس الأسد، وانحيازها معلن إلى فكرة الحل السياسي للأزمة السورية الذي يعتبر نظام الأسد جزءا من الحل.
٢ ــ اصطفاف مصر إلى جانب حملة الحرب على الإرهاب الذي أصبحت الجماعات الإسلامية رمزا لها.
٣ ــ الحرص على تقوية جسور الاتصال والتفاهم مع موسكو التي مدت يد التعاون للقاهرة في مشروع الضبعة الذي يقوم على استخدام الطاقة النووية في الأغراض السلمية.
٤ ــ تصفية الحساب مع الرئيس التركي، الذي استضاف الإخوان في بلاده وفتح فضاءها للإرسال التلفزيوني المناهض للنظام المصري.
المتابع لأداء الإعلام المصري المعبر عن السياسة العامة يلحظ أثر تلك العوامل على الموقف من التجاذب الحاصل بين موسكو وأنقرة. إذ من الواضح أن مخاصمة الرئيس التركي تلعب دورا محوريا في ذلك الأداء. وهو مسلك يضع مصر في موقف دقيق وحرج. ذلك أن ثمة تطابقا في وجهات النظر إزاء سوريا بين الموقفين السعودي والتركي، إذ إن المملكة متمسكة بإسقاط الرئيس الأسد، لأن ذلك في نظرها مؤد إلى إخراج إيران من المشهد، وهو هدف إستراتيجي تصر عليه السعودية، خصوصا بعدما أصبحت طهران مصدر تهديد مباشرا لها، بعدما ساندت الحوثيين، الذين قاموا بانقلابهم في اليمن، وهددوا المجال الحيوي للمملكة. هذا التطابق في الموقف السياسي بين السعودية وتركيا تم تطويره إلى تعاون واسع النطاق خلال الاجتماع الذي عقد بين الملك سلمان والرئيس أردوغان على هامش انعقاد قمة العشرين في أنطاليا التركية منتصف شهر نوفمبر الماضي.
ليس سرا أن ثمة تباينا بين القاهرة والرياض في الموقف من النظام السوري، وأن ذلك التباين ألقى بظلاله على العلاقة بين البلدين، التي كانت قد تأثرت سلبيا بسبب حذر القاهرة إزاء المشاركة في عاصمة الحزم والتحالف المشتبك مع الحوثيين في اليمن. وهذه الخلفية انضافت إلى المتغير الذي طرأ على علاقة البلدين بعد وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز وتولي الملك سلمان السلطة مكانه، وتضمن ذلك التغيير اختلافا بينهما في تقييم الموقف من الإخوان. وهي العوامل التي شكلت تراكما أثر على متانة العلاقة بين القاهرة والرياض، بحيث لم تعد بذات الدرجة من القوة، التي كانت عليها من قبل.
هذه العوامل أطلقت مجموعة من السحابات في العلاقة بين السعودية ومصر، وجاء الانحياز المصري إلى الموقف الروسي في تجاذب موسكو مع أنقرة، ليغدو عنصرا إضافيا أثر على صفاء الأجواء بين البلدين، وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن اقتراب السعودية من تركيا استصحب بصورة تلقائية اتساع الفجوة بين القاهرة والرياض. هذه الفرضية إذا صحت فإنها ترتب نتيجتين تبعثان على القلق، الأولى أنها تؤثر بالسلب على الدعم المالي الذي تقدمه السعودية لمصر، الأمر الذي يمكن أن يشكل عنصرا ضاغطا يثقل كاهل السلطة المصرية. النتيجة الثانية أن من شأن الفتور الذي يلوح في أفق على علاقة القاهرة بالرياض، أن يكون له صداه الذي يؤثر بدوره على موقف دولة الإمارات إزاء مصر، صحيح أن الدعم الإماراتي للقاهرة لا يزال قويا، إلا أنه بدوره كان لابد له أن يتأثر بانخفاض أسعار النفط. إلى جانب ذلك فإن تقاليد التوازنات الخليجية تقتضي قدرا من التوافق والتنسيق بين الإمارات والسعودية لكي تستمر الأولى في دعمها لمصر بنفس درجة الحماس، حيث يتعذر على الإمارات الانفراد بتحمل العبء لأسباب عملية مفهومة. هذا التحليل يقودنا إلى نتيجة خلاصتها أن مصر باختلافها مع السعودية بخصوص نظام الأسد، ووقوفها إلى جانب روسيا ومخاصمتها للموقف التركي تصبح إزاء موقف معقد، يؤثر بالسلب على مواردها الاقتصادية، الأمر الذي يؤدي إلى إرباك وتعقيد الموقف الداخلي.

من المبكر الحديث عن حصاد المواجهة الراهنة بين المعسكرين الروسي والتركي. وما ذكرته لا يعدو أن يكون إشارة إلى بعض الآثار الجانبية الكامنة في الظل، صحيح أن الدولتين ومعهما المجتمع الدولي حريصون على تجنب المواجهة العسكرية، رغم الإهانة التي أصابت قيصر روسيا، لكننا لا نستطيع أن نقطع بذلك في الوقت الراهن، لأن أي خطوة غير محسوبة قد تفجر الصراع في أي وقت. وليس غائبا عن الأذهان أن الحربين العالميتين الأولى والثانية انطلقتا لأسباب محدودة تعلقت بالكرامة والإهانة. فشرارة الحرب الأولى انطلقت حين أعلن إمبراطور النمسا والمجر الحرب على صربيا عام ١٩١٤ غضبا لاغتيال ولي عهده بأيدٍ صربية. وفي رأي بعض الباحثين أن الحرب الثانية انطلقت في عام ١٩٣٩ جراء شعور الألمان بالإهانة لإهدار حقوقها في تسويات الحرب الأولى. والأزمة التي نحن بصددها الآن من تداعيات شعور الرئيس الروسي بالإهانة جراء إسقاط تركيا للطائرة، وهو ما اعتبره «طعنة في الظهر». لا تزال المواجهة بين موسكو وأنقرة في بداياتها. وواضح أن كل طرف يعزز مواقعه. وزيارة الرئيس أردوغان للدوحة التي تتم اليوم تدخل في ذلك الإطار. في الوقت ذاته فثمة علامات استفهام كثيرة حول الموقف العربي الذي تلوح فيه بوادر الانقسام، أما حسابات القاهرة وخياراتها فقد أصبحت أكثر تعقيدا بعدما تداخلت فيه الحسابات المرحلية مع المواقف الإستراتيجية، وليس أمامنا سوى الانتظار لكي نرى أي الكفتين سترجح.