غسان الإمام

مال المشير عامر على أذن مرافقه الضابط السوري، ليسأله همسا: «والمرحوم ده اللواء اسكندرون استشهد في فلسطين؟!». كتم المرافق ضحكته، وهو يجيب الحاكم المصري لسوريا: «المرحوم اللواء اسكندرون استشهد على الحدود مع تركيا».


وكان الفيلسوف الساخر صلاح المحايري أمين عام مجلس الوزراء السوري المتقاعد يكرر رواية هذه «التشنيعة» المفبركة بأسلوبه الجاد والساخر، على مسمع ضيوف مقهى «البرازيل» في دمشق، للغمز من الأشقاء المصريين الذين لم يكونوا يعرفون الشيء الكثير عن سوريا والمشرق العربي، عندما تأسست دولة الوحدة المصرية - السورية.


وبمناسبة الألعاب النارية في سماء سوريا التي أدت إلى إسقاط الأتراك طائرة «سوخوي» روسية فوق تراب لواء اسكندرون الذي غدا لواء «هاتاي» التركي، أروي هنا اليوم ملابسات تلك «التشنيعة» للأجيال السورية والعربية الجديدة التي لم تعرف هي أيضًا الشيء الكثير عن تاريخ سوريا والمشرق العربي، منذ أن ألغى نظام حافظ الأسد الاحتفالات السورية بذكرى «سلخ» لواء اسكندرون عن سوريا، وضمه إلى تركيا، مكتفيًا من النضال لاستعادته، بإبقائه مرسومًا ضمن حدود خريطة الاستقلال السورية.


وأوشكتُ يومًا أن أحظى بغضب عسكر نظام الأسد الذين نسوا لواء اسكندرون. فقد سألت وزير خارجية تركيا الزائر لسوريا في أوائل السبعينات، عما إذا كانت تركيا تعتزم تسوية قضية اللواء السليب، فاستشاط الوزير (الكمالي) غضبًا. فسارعوا إلى ترضيته بالقول إن الصحافي السائل لا يعمل في الإعلام السوري الرسمي، وإنما هو مراسل لوكالة أنباء أجنبية.


وكان الانتداب الأوروبي الذي فرض على سوريا، بعد الحرب العالمية الأولى، قسم سوريا إلى دويلات، وفق التفسير الاستشراقي للتركيب الطائفي. لكن النضال السوري ما لبث أن أسقط هذه الدويلات وهي في المهد.
وعلى الرغم من النضال المسلح الرائع للشيخ (العلوي) صالح العلي ضد الانتداب الأجنبي، فقد استمرت دويلة العلويين الانفصالية إلى أواخر الثلاثينات السورية، بفضل وثيقة وقعها بعض زعماء الطائفة (1936)، وتصر على البقاء في الجيب الانتدابي، وقيل إن من بين الموقعين عليها والد حافظ الأسد. لكن اسمه حذف منها تزويرًا للتاريخ.


وعلى عتبة الحرب العالمية الثانية، جرت تسوية غريبة على حساب سوريا. فقد منحت دولة الانتداب إقليم اسكندرون المطل على البحر من أقصى الزاوية السورية الشمالية الغربية، إلى تركيا لضمان بقائها على الحياد، وعدم الانضمام إلى ألمانيا، كما فعلت في الحرب العالمية الأولى.


ولاستكمال اللعبة، جرى استفتاء صوري لسكان إقليم اسكندرون، صوّت فيه الأتراك بالطبع، للانضمام إلى تركيا. وأصيب السكان العلويون والمسيحيون العرب بصدمة كبيرة. فقد كانوا هم الغالبية السكانية في الإقليم. وباتوا راغبين في الهجرة واللجوء إلى سوريا، لرفضهم العيش تحت السلطة التركية. وقد سبقهم في الهجرة بطاركة كنائس المشرق في أنطاكية (المدينة المسيحية التاريخية في الإقليم). فغادروها لإقامة مقارهم الكنسية في دمشق، تأكيدًا لعروبة ومشرقية كنائسهم. ولم يذهبوا إلى الإقامة في لبنان (المسيحي).


وهكذا كانت هجرة غالبية هؤلاء العلويين والمسيحيين إلى سوريا أول هجرة عربية سكانية في التاريخ الحديث. وجاءت بعدها أو بالأحرى، معها، هجرة الأشقاء الفلسطينيين. ولم يكن أمام سوريا سوى أن ترحب بالعلويين والمسيحيين، وتمنحهم الجنسية وتسهيلات الاستيطان والإقامة، في محافظات إدلب. واللاذقية. وسهل الغاب الخصيب في محافظتي حمص وحماه.


أما الفلسطينيون فقد تساووا مع السوريين أمام القانون، باستثناء الجنسية. لكن مأساتهم تتجسد في دك جيش حافظ وبشار مخيماتهم في سوريا ولبنان، على مراحل منذ ثمانينات القرن الماضي، بالدبابات. والصواريخ. والمدفعية. والبراميل المتفجرة، مستعينًا بشيعة «حزب الله». وأخيرًا بالميليشيات العراقية. والإيرانية. والأفغانية. وها هي القيادة الإيرانية تبلغ الرئيس بوتين فور وصوله إلى طهران، أنها سترسل تعزيزات برية، لمواصلة «الجهاد» في سوريا مع قوات الأسد «لتحرير» سوريا من السوريين.


اجتماعيًا، كان العلويون القادمون من لواء اسكندرون أكثر لينًا وثقافة من إخوتهم سكان جبال اللاذقية. وأذكر من بينهم المثقف العروبي زكي الأرسوزي الذي وضع كتيبًا عن الدلالة الصوتية للحروف العربية. لكن طموحهم السلطوي لم يتغلب تمامًا على الصراعات العشيرية بينهم.


أمضي في الأمانة مع التاريخ، لأقول إن نظام اليمين في سوريا لم يكن واعيًا ودارسًا للمأزق الطائفي. بدلاً من الحوار مع الإثنيات العنصرية والدينية، شن النظام حملة أمنية على العشيرة المرشدية التي تقيم مع العلويين في جبال اللاذقية. ألقي القبض على زعيمها الروحي سليمان المرشد. وحوكم بسرعة وأعدم (1947). ثم اغتال نظام أديب الشيشكلي الديكتاتوري اللواء محمد ناصر زعيم كتلة الضباط العلويين. وكان الرد باغتيال عسكر العلويين المنتسبين للحزب الفاشي (السوري القومي الاجتماعي) للعقيد عدنان المالكي رجل الزعيم الاشتراكي أكرم الحوراني في الجيش.


مع ذلك واصل الحوراني خطأه في دفعه شباب العلويين للانخراط في الجيش، نكاية بالأسر السنية الإقطاعية في مدينة حماه. وعندما تنبه إلى خطئه في الستينات، كان الأوان قد فات لإعادة التوازن الطائفي للجيش. فقد فر من سوريا بعد انقلاب مارس (آذار) 1963 الذي أوصل حزب البعث بزعامة ميشيل عفلق إلى السلطة في سوريا. لكن الضباط العلويين بزعامة صلاح جديد وحافظ الأسد دبروا انقلابًا آخر على القيادة المدنية (1966). وبهذا الانقلاب، تم تدشين حكم النظام الطائفي الذي استأثرت به أسرة الأسد إلى الآن.


أملك من الجرأة لأقول إن جيش الشرق الذي تسلمته سوريا من دولة الانتداب كان غاصًا بضباط وجنود الأقليات، وخصوصًا العلويين. ولم تتم إعادة تأهيله كجيش وطني عربي، كما سائر الجيوش العربية. فقام بالانقلابات العسكرية التي دمرت الديمقراطية الوليدة. وهزم في الحروب مع إسرائيل. ودخل لبنان ليعيث به فسادًا ثلاثين سنة. وانتهى كأداة إكراه. وقمع. واغتيال. ثم كأداة قتل وإبادة جماعية. ومن المحزن أن تعاود أميركا وأوروبا وروسيا الرهان على هذا الجيش الطائفي لمقاتلة «داعش».


وأحسب أن على بوتين وأوباما نقل قوات الأسد بسيارات «التاكسي» إلى شرق سوريا، ليقود «النضال» لتحريرها من قبضة «الخلافة الداعشية» التي ساهم في خلقها هناك، منسحبًا أمامها بلا قتال يذكر. تاركًا لها عتاده. وسلاحه. ودباباته.


هذا عصر الأقليات. انتفخت إمبراطوريات القرون الوسطى بالأمم والشعوب التائقة للاستقلال. فانفجرت الإمبراطوريات على عتبة العصر الحديث كبالون ثقب بإبرة. تضخمت الأقليات في الدولة القومية. فاهتز النظام العالمي. ربما لن يطول الزمن قبل أن نرى روسيا. أميركا. الصين. الهند تتناوبها حروب الأقليات الانفصالية، تمامًا كما يحدث اليوم في المشرق العربي والشرق الأوسط.


سوريا كما لبنان. كلتاهما دولة من 18 دينًا. ومذهبًا. وعرقًا. ألعاب إردوغان. وبوتين. وإيران النارية في السماء السورية ما هي إلا تعبير عن مآزقهم مع الأقليات. إردوغان لا هو قادر على نجدة أقلية التركمان التي يقصفها بوتين وبشار. ولا هو قادر على تأديب الأكراد خوفًا من أميركا. ولا على غزو سوريا وإسقاط بشار، خوفًا من إيران والأقلية العلوية في تركيا. مشكلة بشار من مشكلة إردوغان: يحكم الغالبية السنية باسم الأقليات. والسنة لا تعرف كيف تحكم أقلياتها. ولا تدع أحدًا يحكمها. هاتوا حلاً من ميستورا. وكيلو. وغليون. وبان كي مون.
&