عبد الوهاب بدرخان

خلال شهور، بل أسابيع معدودة، تقلّبت العلاقات الروسية- التركية من صداقة وتعاون اقتصادي يخترقان العقوبات الأوروبية لروسيا، على خلفية الأزمة الأوكرانية، إلى صداقة مهتزّة ونفوس معبّأة بعد التدخل الروسي في سوريا، إلى توترات رافقتها دعوات موسكو إلى أنقرة للتنسيق واحتكاكات تمثّلت في تكرار دخول المقاتلات الروسية الأجواء التركية وبلغت ذروتها مع إسقاط الـ«سوخوي 24»، لتفجّر غضباً وعداءً روسيين غير مسبوقين لم يظهرا في ردود الفعل الرسمية فحسب، بل في إتاحة الاعتداء على السفارة التركية في موسكو، على غرار ما يحصل في دول توصف عادةً بـ«المارقة». في المقابل تثار طبعاً مآخذ على تركيا، من نوع أن الانتهاك الروسي لأجوائها ليس متعمّداً، وأن أنقرة المستاءة من مجريات الدور الروسي في سوريا ربما تقصّدت الحادث استدراجاً لتفاهمات تأخذ «مصالحها السورية» في الاعتبار.

لحظة إسقاط الطائرة الروسية قفزت إلى الأذهان حوادث كثيرة في التاريخ شكّلت شرارة لاندلاع حروب كبيرة، غير أن واقع الوجود الأميركي في المنطقة من خلال «التحالف الدولي ضد الإرهاب»، وواقع انتماء تركيا إلى حلف الأطلسي استبعدا التصعيد العسكري، فجاء ردّ روسيا حاداً سياسياً، ثم تُرجم بإجراءات اقتصادية عقابية (قطيعة سياحية، وقف كل المشاريع والصفقات التي كانت على وشك الإبرام أو قيد البحث...)، ومن دون المسّ بتصدير الغاز إلى تركيا، لكن الردّ الأكثر قسوة كان بمتابعة القصف الجوي الروسي لقرى وبلدات منطقة «باير بوجاق»، التي تقطنها أقلية التركمان المرتبطة عرقياً بتركيا، وهي تتاخم في ريف اللاذقية منطقة جبل العلويين. وما إن بدأت حملة قوات النظام السوري ضد التركمان حتى راحت أنقرة ترسل التحذيرات إلى روسيا، وكذلك إلى دول «التحالف»، مشيرة إلى أنها لن تسكت على اقتلاع هؤلاء السكان الموجودين في مواطنهم منذ مئات السنين، ورغم إعلان التركمان أنفسهم خلو مناطقهم من الإرهابيين، وبالأخص من «الداعشيين»، وأنهم يحملون السلاح للدفاع عن أنفسهم، فإن الجانب الروسي واصل دعمه لقوات النظام حتى لو أدَّى إلى تهجير جميع السكان.

&


لا شك في أن هذا التطوّر لعب دوراً في قرار أنقرة إسقاط الطائرة الروسية التي حرصت مصادر غربية كثيرة على القول إنها كانت في عملية فوق مناطق خالية من «داعش»، استطراداً للنقاش المستمر حول طبيعة المهمة الروسية واستهدافها أولاً مواقع المعارضة السورية المناوئة للنظام، لكن حلف «الناتو» الذي اجتمع بدعوة من تركيا لمناقشة حادث حصل في الجو لم يتطرَّق إلى ما هو حاصل على الأرض، وبعد أخذ العلم بتفاصيل الواقعة كان واضحاً أن الحلف أراد اعتبار الحادث عابراً ولا يريد تكراره، بمعنى أنه يستبعد مواجهة مع روسيا. لذا كرر الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون والألمان دعواتهم إلى التهدئة والتعقُّل وحتى إلى الحوار. وربما كان الأتراك راغبين في حوار مع الروس، لكن هؤلاء لا يسعون إلى أكثر من تنسيق يتعلق بحركة الطائرات.

كان الأميركيون والأتراك استهلكوا عاماً من التفاوض قبل أن يتوصّلوا إلى اتفاق يجيز للمقاتلات الأميركية استخدام قاعدة أنجيرلك، بالإضافة إلى تفاهمات سياسية تؤكدها أنقرة، ولا تؤكدها واشنطن بشأن الأزمة السورية، وإمكان إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا. ومن الواضح أن روسيا ليست معنية باتفاق مشابه يريده الأتراك لتثبيت مصالحهم، بل أكثر من ذلك يبدي الروس ميلاً أكبر إلى المقاربة الاستراتيجية التي يتبناها النظام السوري وحليفه الإيراني، وهي معادية بمجملها لتركيا ليس فقط من قبيل الرد على وقوفها إلى جانب المعارضة السورية وتركيزها على إبراز الإسلاميين، بل أيضاً لأنها دولة الجوار الوحيدة التي منحت الولايات المتحدة والدول الأوروبية منفذاً إلى الداخل السوري. ولذلك فإن الثلاثي (روسيا وإيران ونظام دمشق)، لا يكتفي بإحباط أي دور تركي بل يمدّ خطوطاً مع الأكراد وقوى أخرى قادرة على زعزعة الاستقرار داخل تركيا.

فيما تجازف موسكو باتهامها بارتكاب تطهير عرقي بمشاركتها في تهجير التركمان، لا تجد أنقرة خيارات كثيرة لمنع ذلك أو معالجته أو الردّ عليه. وهذه قد لا تكون ذروة المأزق، لأن مشكلة تركيا، طوال الأزمة السورية، كانت مع حلفائها وأصدقائها بمقدار ما كانت مع خصومها، إذ لم تتمكّن من إقناع واشنطن بدعم مشاريعها للتدخل في سوريا، ولم تحصّل من «الناتو» أكثر من التزام حمايتها إذا اعتُدي عليها من دون تبني أجندتها السورية، لذلك تخشى التطورات الحاصلة سورياً وترغب في التصعيد لخلط الأوراق لكنها تجد نفسها وحيدة.
&