عبدالله بن بجاد العتيبي

بثت قناة «العربية» ثلاث ساعاتٍ في ثلاثة أيام من وثائقي مهم يقدم رصدًا متكاملاً لجرائم تنظيم القاعدة، وبث الكثير من الصور الحصرية، بعضها مما صورته الأجهزة الأمنية لعمليات المداهمة والاشتباك مع عناصر التنظيم وأوكاره، وبعضها من تصوير عناصر التنظيم التي ضبطت معهم.


في حرب السعودية ضد تنظيم القاعدة كان رجال الأمن هم الأبطال الحقيقيين، الذين بذلوا دماءهم وخاطروا بأرواحهم لحماية الوطن والمواطنين، من قائدهم الأمير محمد بن نايف صانع النموذج السعودي الذي يُشاد به دوليًا في محاربة الإرهاب إلى أصغر جندي.


لا تنظر السعودية للإرهاب بعين عوراء، كما يجري في الغرب، فهي تحارب الإرهاب السني كما تحارب الإرهاب الشيعي، ومواطنوها من شتى المذاهب براءً من تلك الجماعات الإرهابية المعزولة، وهو كما واجهت الإرهاب السني متمثلاً في تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، تواجه الإرهاب الشيعي وخلاياه وعناصره الموالين لإيران، الذين اتخذوا الإرهاب طريقًا وقتل الآمنين وترويعهم سبيلاً.


لقد ذكرنا الوثائقي «كيف واجهت السعودية القاعدة» الذي تمّ إعداده بعناية، بجرائم تنظيم القاعدة وتوحشه واستهتاره بأرواح الأبرياء والآمنين، ونقل لنا صورًا ومقاطع فيديو تظهر لأول مرةٍ، وفيها من تفاصيل الإجرام ما يؤكد كل ما كُتب عن التنظيم من بشاعةٍ وتوحشٍ، ولم يتبقّ أمام عناصره ومجرميه كبارًا وصغارًا سوى العدالة الناجزة بعد طول محاكماتٍ أظهرت جرائم غير مسبوقةٍ وفكرًا مريضًا وهوسًا بالقتل والدماء.
حان الوقت ليواجه أولئك المجرمون القتلة مصيرهم الأسود، ويدفعوا ثمن تخريبهم وتدميرهم للوطن والمواطنين، لحاجة السعودية لفرض هيبة الدولة وبسط الأمن في ربوع البلاد وتذكير الجاهل وتنبيه الغافل ليعرف مصيره قبل أن ينخرط في أي دعاية مضللة للتجنيد للتنظيمات الإرهابية، التي زاد نشاطها في الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، كما أن فيها تذكيرًا لكل خصوم السعودية في العالم الذين لا يفتأون يهاجمونها بعلاقتها بالإرهاب أنها خاضت قبلهم المعركة ضد الإرهاب، ودفعت أثمانًا باهظة لمواجهته والقضاء عليه.


لن يتم القضاء على الإرهاب قبل أن يتم القضاء على المحرضين والمهيجين، صنّاع السخط والإحباط وناشري الكراهية والعنف، وحتى يتم القضاء المبرم على كل الخطابات الدينية المتطرفة، مع كل ما يقتضيه ذلك من جهدٍ جهيدٍ، فالمحرضون إخوان الشياطين، يدفعون بالشباب الغرّ زرافاتٍ ووحدانًا إلى السخط والكراهية والعنف، ثم يتبرأون منهم عند لحظة التنفيذ، جبناء يدفعون غيرهم للموت ويستلذون بمباهج الحياة.
«المخدرات» و«الشذوذ الجنسي» و«التوحش» ثلاثة أدواءٍ أظهرها الوثائقي تصريحًا وتلميحًا، أما المخدرات فهي مباحةٌ لديهم بفتاوى شوهاء من طالبان إلى تنظيم القاعدة، وقد أظهرت المقاطع بعض الانتحاريين المجرمين وهم فاقدو التركيز قبل تنفيذ عملياتهم ليرى المتابع عيانًا ما كان يعرفه من قبل، وأما الشذوذ الجنسي لدى عناصر التنظيم فالمعلومات حوله متعددةٌ من قبل، ويكفي شاهدًا أن الإرهابي الذي حاول اغتيال الأمير محمد بن نايف تم حشو المتفجرات في دبره، ولم تزل إلى اليوم فضائح الإرهابيين، إلا ربعًا ممن يسمون بـ«الدعاة»، تترى وتتوالى، ومقاطعهم وأحاديثهم في بعض القنوات أو المخيمات يتداولها الناس باستهجانٍ شديدٍ واستنكارٍ بالغٍ، وأما التوحش، فقد خُلق لهم وخلقوا له.


منذ 2003 وبداية التفجيرات الإرهابية من تنظيم القاعدة، كان ثمة جناحٌ سياسي من المتطرفين يدافع بحرارةٍ عن الجناح العسكري، ويرغب في حصد ثمار السياسة من شجر الإرهاب، وقد خرجوا حينذاك على بعض القنوات الموالية لـ«القاعدة»، حينها، وقدموا مطالبهم على الهواء مباشرةً، ولم يزل بعضهم بيننا يحرض ويهيج، وما لم يشعر هؤلاء بالخوف والوجل والمحاسبة فلن يغيروا شيئًا من مواقفهم.
لقد تكشفت العديد من الحقائق اليوم، وتنظيم القاعدة الذي طالما قدّم نفسه تنظيمًا سنيًا متطرفًا يستهدف السعودية كأولوية، ويستهدف العالم بأسره، كان على تواصل دائمٍ مع إيران، وهي أوت العديد من قياداته، وقدمت الدعم غير المحدود له، وكان يتحاشى التعرض لمصالح إيران في مناطق نفوذه وعنفه وإرهابه في العراق واليمن وغيرهما، وهو بتصريحات بعض قياداته، وبالأوامر الصادرة من أيمن الظواهري للزرقاوي كان يأمر بالابتعاد عن مصالح إيران أو استهدافها بأي شكلٍ من الأشكال.


إن تنظيمات وجماعات وتيارات الإسلام السياسي هي المحضن الأساس الذي يتخرج فيه هؤلاء الإرهابيون، من إخوان مسلمين إلى سرورية إلى العديد من التسميات التي تختلف من مكانٍ إلى آخر ومن وقت لغيره، وكلّها تتفق مع تنظيم القاعدة ومع تنظيم داعش، ولا تختلف معهما إلا في «التوقيت» وأن «يوم الدم»، كما كان يقول حسن البنا، لم يحن بعد، فالخلاف بين هذه المحاضن ومنتجاتهم خلافٌ شكليٌ، وهو خلافٌ في الدرجة لا في النوع.


لقد ملأ هذا «الوثائقي» السمع والبصر، وذكّر الناس بما مضى من جرائم تنظيم القاعدة وإرهابه، ومع كل ذلك فإن أحدًا من المحرضين لم يعلِّق على البرنامج، ولم يتعرض له، ولم يستنكر تلك الجرائم، ولم يدن أولئك المجرمين، وهذا ما يمكن تسميته «التأييد الصامت».


لقد نكأ هذا البرنامج الجراح، وذكّر بالجرائم، وأعاد التفكير فيها حيًا وقويًا، ولا يطفئ نار الإرهاب مثل إنفاذ العدالة وإنجاز الأحكام وتطبيق العقوبات. والعمل الدؤوب على القضاء على المنابع وتجفيفها، لا بردة الفعل فحسب، بل بالفعل وخلق آفاقٍ جديدةٍ لمستقبلٍ أرحب وأجيالٍ أحرص على بناء الأوطان والانخراط في مشاريع التنمية والمنافسة على النجاح والإنجاز، وتلك مهمةٌ جلّى يجب أن تكون مكتملة الأركان مرصوفة الطريق بالأمل والعمل وشاملة التخطيط، وأن تأخذ زمنها اللازم للنضج وخلق الفارق وضمان التأثير.


عرض الفيلم أحاديث بعض أولئك الأبطال الذين كانوا في الخطوط الأمامية للمواجهة مع الإرهاب، وكان فيها اعترافاتٌ بالأخطاء أو التقصير، مما يعني شفافيةً محمودةً ورائعةً تنبئ بأن النجاح جاء نتيجة اكتشاف الخطأ أو القصور والشروع السريع في التصحيح والإحكام.


أخيرًا، لم ينتهِ تنظيم القاعدة بعد، وإن انتهى في السعودية، فهو موجود في العديد من البلدان، وقد شرع مجددًا في التنافس مع تنظيم داعش، وبدأ يضرب مجددًا في أماكن متعددةٍ، والعجيب حقًا أن البعض يسعى لإقناعنا بأن «جبهة النصرة» في سوريا، التي تبايع أيمن الظواهري، وتنتمي لتنظيم القاعدة يجب أن تكون جزءًا من الحلّ في سوريا!
&