عادل درويش

التصفيق في مجلس العموم أمر نادر الحدوث لا يتكرر إلا كل بضعة أجيال. كانت مفاجأة عندما انفجر النواب من جميع الأحزاب في عاصفة من التصفيق لكلمة وزير خارجية حكومة الظل هيلاري بن، ليختتم بها حيثيات قضية المعارضة ردًا على مشروع القرار الذي قدمته حكومة المحافظين يوم الأربعاء الماضي بشأن احتواء التنظيم الإرهابي «داعش». المفارقة أن كلمة بن كانت لتأييد الحكومة لا معارضتها، مثلما بدا زعيم العمال النائب اليساري جيرمي كوربن أثناء تقديمه حيثياته لرفض مشروع الحكومة.


ناقش البرلمانيون مشروع القرار في جلسة استمرت 11 ساعة، فأضافوا إلى تاريخ أم البرلمانات وأعرقها فصلاً مشرفًا يبين أن «العموم» لا يستحق اللقب العظيم فحسب، بل إنه قدم درسًا يستحق تدريسه لديمقراطيات العالم، وليؤكد أن وستمنستر ستظل دائمًا نموذجًا مثاليًا للعالم الحر بأفضل نظام برلماني.


نظام الدوائر المباشرة لحظة اتخاذ قرار حاسم يتجاوز الانتماء الحزبي والآيديولوجي، لا ليتغلب الواجب الوطني على كل الاعتبارات فحسب، بل أيضا الواجب تجاه الإنسانية، واعتبار أن النائب يمثل أبناء دائرته. يجد النائب نفسه سابحًا وحيدًا في بحر متلاطم، تصارعه تيارات متباينة: ضغوط الحزب وأغلبية مصالح ورأي الناخبين الذين يمثلهم، وموازنتها بمعلومات حصل عليها من المتخصصين، أو من وكالات استخبارية لا يستطيع مشاركة معظمها مع ناخبيه، والمصلحة القومية للأمة، وعليه أن يوازن بين هذه التيارات عند قرار التصويت.


التصويت في وستمنستر لا يتم برفع الأيدي أو كتابة ورقة، وإنما بالسير بعد إخلاء القاعة في ثماني دقائق تغلق بعدها الأبواب في ممرين إلى «lobby» ردهات «نعم» على يمين المنصة، وردهات «لا» على يسار المنصة. ويحصى عدد المارين في كل ممر، لتعرف الأغلبية من الأقلية.


نواب من الحكومة صوتوا ضد مشروع القرار، و66 من نواب المعارضة التحقوا بنواب الحكومة في ردهة «نعم»، ونواب غيروا موقفهم المعلن بعد الاستماع لخطب وحجج معلوماتية منطقية في بلاغة قد يعجز أعظم المحامين عن تقديمها مع موكلهم أو ضد الخصم.


ورأينا أيضًا أسوأ ما في بريطانيا خاصة من النشطاء اليساريين في الحركتين العمالية والاشتراكية والإهانات التي وجهوها للنواب، لدرجة مطالبة بعض النواب بحماية البوليس، خاصة للسيدات النائبات اللاتي تلقين التهديدات على مواقع التواصل الاجتماعي أو بالكتابة على جدران منازلهن بأقذع الشتائم لتصويتهن مع الحكومة.


الجلسة البرلمانية أنزلت انقسامًا كبيرًا بصفوف العمال وزعزعت موقف زعيمهم داخل البرلمان، لكنها قوّت موقفه بين الحركات الشعبية والفوضوية في الشارع البريطاني.
ولأن غوغائية الشارع والمظاهرات والاحتجاجات تعرقل الديمقراطية وتسبب لها الخدوش والكدمات، امتلأت الصحافة بتعليقات وتحليلات تشدد على الحاجة الآنية لتأكيد قوة البرلمان وضرورة عودة سيطرته على المشهد السياسي، لكبح جماح التيارات الشعبية الغوغائية التي تضر بالديمقراطية والأمن والاقتصاد. فنظام الدوائر الانتخابية يضع النائب (حتى الوزير أو رئيس الحكومة نفسه) في اتصال دائم ومباشر مع الناخبين، بل في محاسبة أسبوعية في الـ«surgery» أو العيادة (من معاودة الناخبين لنائبهم) كل يوم سبت.


ولا يختلف اثنان من المراقبين أو الصحافيين البرلمانيين أو الساسة سواء من مؤيدي أو معارضي هيلاري بن على أن كلمته كانت الأفضل بين باقة من أروع الكلمات وأكثرها بلاغة في هذه الجيل.
ما يعرفه المؤرخون السياسيون بالوعي باللحظة التاريخية ألهم هيلاري بن مضمون 14 دقيقة في كلمة دخلت التاريخ بجانب خطب أشهر الزعماء البريطانيين كالسير ونستون تشرشل الذي قاد العالم لدحر الفاشية، والسيدة ثاتشر وخطبة وزير الخارجية السابق السير جيفري هاو التي أدت لسقوطها من زعامة الحزب، وخطبة وداع توني بلير قبل سبعة أعوام.
وإذا صح استخدام تعبير أرستقراطية حزب العمال فإن هيلاري بن ينتمي لهذه الأرستقراطية.


هيلاري هو الجيل الثالث من عائلة متمرسة في التقاليد البرلمانية. والده كان وزيرًا سابقًا في ثلاث حكومات عمالية في الستينات والسبعينات. ورغم انحداره من أسرة أرستقراطية فإنه كان ينتمي إلى المدرسة الاشتراكية القديمة. جده هجر حزب الأحرار إلى حزب العمال منذ تسعين عامًا، في ظاهرة (خاصة في العالم العربي) أن يرفع أبناء الطبقات الميسورة والأرستقراطيون راية الاشتراكية.
ست من الحكومات العمالية في النصف قرن الماضي كان فيها وزير من بيت بن في الحكومة.


خطبة بن التي وضع فيها النقاط على الحروف بتوصيف المنظمة الإرهابية «داعش» بجوهرها الصحيح «منظمة فاشية»، وحذر النواب من أن الفاشيين يضعون أنفسهم في مرتبة أسمى من بقية البشر، فإذا كانوا يكفرون غيرهم من المسلمين، ويهدرون دماءهم، فما بالك بنظرتهم لغير المسلمين؟
وأخرج بن من جعبة التاريخ نماذج تثير شغف الوجدان البريطاني بذكريات لحظات حاسمة، فذكر تطوع مئات البريطانيين أثناء الحرب الأهلية الإسبانية لمكافحة الفاشية، وجيل أبيه في وقوف مجلس العموم (ولا تزال لوحة الشرف تحمل أسماء نواب بذلوا حياتهم في سبيل الوطن بجانب أوسمة بطولاتهم معلقة في الردهة المؤدية لمطعم المجلس) ضد الفاشية والنازية أثناء الحرب العالمية الثانية.. أداة بلاغية سيكولوجية كي يستعيد النواب جو الحرب العالمية الثانية كفترة حاسمة في تاريخ الأمة.


الكلمة أقنعت عددًا معتبرًا من نواب العمال، الحزب الذي يعارض ورئيسه المشروع قرار الحكومة، بالتصويت معها، عندما استدار بن إلى صفوف حزبه ليقول: «شقيقتنا في الاشتراكية، حكومة فرنسا الاشتراكية التي تعرضت لهجوم إرهابي تتوسل إلينا طالبة يد المساعدة». أداة بلاغية أخرى لإقناع النواب، والصحافيين، ومؤرخي المستقبل أن اتخاذ موقف مبدئي من اليسار الاشتراكي لا يعني التصويت ضد أي عمل عسكري بأي حال من الأحوال. فالاتحاد السوفياتي، النموذج الأكبر للنظرية الماركسية الشيوعية تحالف مع الخصم التاريخي النظام الرأسمالي الذي يقوده المحافظ منظر الإمبراطورية تشرشل لدحر النازية والفاشية، لأن خطر الفاشية كان الأكبر عندما وقفت الإنسانية على مفترق طرق بين خيارين: المصالح القومية والآيديولوجية الضيقة، أم الخيار الأوسع وهو الانحياز للإنسانية ضد البربرية الهمجية.
كلمة بن ألهبت ذاكرة النواب ليستعيدوا درس التاريخ بأن الجانب الأفضل في الإنسانية، شرقًا وغربًا اختار الانحياز لقوى الحق الطبيعية لدحر الباطل الذي مثله محور النازية والفاشية. نواب

المعارضة المسلمون - باستثناء اثنين – صوتوا مع قرار مواجهة «داعش» في سوريا ليثبتوا أن المسلمين وقسمًا من الاشتراكيين وعوا جسامة اللحظة التاريخية. ويا ليت شباب يناير و6 أبريل وأمثالهم يبذلون الجهد في محاولة نافعة، كترجمة جلسة الأربعاء، إلى اللغة العربية في كتاب يوزع في مصر وفي بلدان انتفاضات 2011 وما بعدها، التي تتشكل فيها الأجنة البرلمانية.
&