إياد أبو شقرا

باستثناء المثاليين والطموحين من جيل الشباب، يدرك اللبنانيون أن تسمية رئيس جمهوريتهم ليست بأيديهم ولا أيدي نوابهم المُنتخبين. إنها، كما أثبتت التجارب العديدة، في أيدي القضاء والقدر.. ثم توافق القوى المهيمنة على مصير وطن، بعض أهله يعتبرونه «صفقة»، والبعض الآخر «وطنًا مصادفة»، وفئة ثالثة تراه «حلمًا مستحيلاً».


النائب الحالي والوزير السابق سليمان فرنجية ملء السمع والبصر منذ سنين، ويتمتع بزعامة راسخة منذ أربعة أجيال أو أكثر، بل إن جدّه - الذي يحمل الحفيد اسمه - سبق له أن تولى رئاسة الجمهورية. ومع ذلك تحوّل من مرشح «مُستبعَد» إلى مرشح «مُرجّح» بمجرّد صدور «كلمة السرّ» من المرجعيات الدولية، المعنية بإنهاء دوران لبنان في فراغ الشغور الرئاسي، بعد أكثر من سنة ونصف السنة. لقد صار النائب فرنجية، فجأة، المرشح شبه المحسوم لتولّي المنصب مع أنه - ظاهريًا على الأقل - لم يكن مرشحًا.


لفهم طلاسم حكم لبنان، لا بد من مراجعة قصيرة للتاريخ ومن تحليل للواقع السياسي الراهن. ذلك أن أساس لبنان الحالي، الذي أنشئ عام 1920 بعد خسارة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وتولي فرنسا الانتداب عليه، كان كيانًا أصغر حجمًا هو «متصرِّفية جبل لبنان» العثمانية، التي أعلنت في أعقاب حرب أهلية طاحنة بين الموارنة والدروز.


بعد تدخّل القوى الأوروبية في تلك الحرب جرى التوصّل إلى صيغة توافقية جعلت من الجبل (أو «لبنان الصغير») كيانًا إداريًا وسياسيًا دون مستوى «الولاية» (Province) وأعلى من «القائمقامية» (District)، في التقسيم الإداري العثماني. ووفق هذه الصيغة صار الجبل «قائمقامية ذاتية الحكم» (Autonomous District) تحت اسم «متصرِّفية» تُحكم من إسطنبول عبر «متصرِّف» مقيم في الجبل يعيّن بالتفاهم والتنسيق مع القوى الأوروبية الكبرى (بما فيها فرنسا وبريطانيا وروسيا). وشملت صيغة التوافق طمأنة المسيحيين الموارنة عبر بند يشترط جعل «المتصرِّف» مسيحيًا، وطمأنة المسلمين (الدروز ومعهم السنة والشيعة) عبر بند ينصّ على أن يكون هذا «المتصرِّف» المسيحي من رعايا الدولة العثمانية وموظفًا في حكومة السلطان الذي هو «خليفة المسلمين». ومن ثَم، يُصار إلى تجديد مدة سلطته بين الدولة العثمانية والقوى الأوروبية. وظل التوافق في ظل سيادة منقوصة مبدأ الحكم طوال عهد «المتصرِّفية» حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.


لاحقًا، رعى الانتداب الفرنسي توافقًا آخر في ظل زيادة كبيرة في نسبة المسلمين بعد ولادة «لبنان الكبير» (بحدود لبنان الحالية)، إثر ضم المدن الساحلية وأقصى الشمال والجنوب ومنطقة البقاع، وكلها مناطق ذات غالبية مسلمة. وجرى عُرفًا توزيع الرئاسات (الجمهورية والبرلمان والحكومة) طائفيًا بعد الاستقلال عام 1943، وبالنصّ الدستوري بعد «اتفاق الطائف» 1989.
هذا عن التاريخ، أما عن الواقع فإنه يتأثر بعاملين داخلي وخارجي.


العامل الداخلي هو أن الانقسام السياسي بين تكتلي «14 آذار» و«8 آذار» انقسام بين فريقين لا يجمع - فعليًا - بين مكوّناتهما سوى العداء للفريق الآخر ومَن يقف وراءه. ففي كل من الفريقين مسلمون ومسيحيون، ويمينيون ويساريون، وميليشياويون ومدنيون. أما الفارق الكبير فكان وقوف التكتل الأول ضد ممارسات النظام السوري وجهازه الأمني، والتزام الثاني بمواقف ذلك النظام ومن خلفه إيران.. القوة الإقليمية الداعمة له. وكان الانقسام بين الجانبين مُحتدمًا عندما حان عام 2008 انتخاب الرئيس ميشال سليمان (المنتهية ولايته عام 2014). وبالنتيجة، انتخب سليمان إثر توافق تحقق في العاصمة القطرية الدوحة برعاية وموافقة إقليمية ودولية، تمامًا مثل معظم رؤساء لبنان «المستقل» بعد 1943.


خلال الأشهر الماضية كان هناك اسمان مطروحان بقوة، هما الدكتور سمير جعجع زعيم «القوات اللبنانية» المرشح المعلن لـ«14 آذار»، والنائب ميشال عون زعيم «التيار الوطني الحر» المرشح الضمني لـ«8 آذار». ووسط الانقسام طرح الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط مرشحًا ثالثًا من كتلته البرلمانية هو النائب هنري حلو كـ«مرشح توافق» لم يحصل على تأييد أي من التكتلين الكبيرين. ومن ثم، أدت مقاطعة نواب «8 آذار» جلسات الانتخاب المتتالية إلى تعذّر انتخاب رئيس وشغور المنصب حتى الآن.


لقد كان واضحًا أن ثمّة «فيتو» صريحًا على جعجع من حزب الله وحركة أمل، وهما القوتان الشيعيتان الكبيرتان اللتان تشكلان أقوى قواعد «8 آذار»، مما يعني استحالة انتخابه. وفي المقابل كان مفهومًا أن تيار «المستقبل» أقوى ممثلي السنّة في البرلمان، وكتلة جنبلاط الممثل الأقوى للدروز، يرفضان عون بالمطلق.. وهو ما يعني أيضًا استحالة انتخابه. وهكذا كان لا بد من البحث عن خيار ثالث.


أما عن العامل الخارجي، فما كان مُمكنًا فصل تداعيات الفراغ الرئاسي والتوتر الأمني في لبنان عن الوضع المتفجر في سوريا، وبالأخص، مع مشاركة حزب الله في الحرب السورية إلى جانب النظام، وتعاطف الشارع السنّي بقوة مع معاناة السوريين. ولقد بلغ هذا التعاطف حدّ تطوع شبان سنّة لبنانيين في التنظيمات التي تقاتل نظام الأسد والميليشيات الشيعية الداعمة له.


أيضًا ما كان مُمكنًا فصل الوضع اللبناني عن التناول الأميركي للأزمة السورية. وحقًا كشفت تطورات الأسابيع الأخيرة مدى «استسلام» واشنطن لمقاربة موسكو للوضع السوري، بما في ذلك صمتها على التدخل العسكري الروسي المباشر، وقبولها بإعادة تأهيل بشار الأسد بحجة أولوية التصدّي لـ«داعش»، وتواطؤها على وأد مقرّرات «جنيف 1» من أجل تمرير «فيينا 1 و2».


كان متوقعًا أن ينعكس «ركوب» واشنطن «قاطرة» موسكو السورية على الوضع في لبنان. وبعده عجّلت عمليات «داعش» الإرهابية ضم فرنسا أيضًا إلى الرؤية الروسية. وهكذا ولدت عند اللاعبين الدوليين الكبار فكرة استنهاض صيغة التوافق القديمة المجرّبة منذ أيام «المتصرِّفية»، وبموجبها تُنتخب شخصية مسيحية لا تستفز المسلمين من «8 آذار» للرئاسة، مقابل إسناد رئاسة الحكومة لشخصية مسلمة لا تستفز المسيحيين من «14 آذار». وبما أن النائب فرنجية شخصية مقبولة سنّيًا ودرزيًا، جرى طرح اسمه والترويج له، ضمن صفقة متكاملة تشمل قانون انتخاب جديدًا وإصلاحات داخلية.
&