رضوان السيد

بمناسبة معرض بيروت للكتاب، أتى «ألان غريش»، رئيس تحرير «لوموند ديلوماتيك»، لتوقيع كتابه الصادر حديثاً والمترجم للعربية، «الإسلام والجمهورية والعالم». و«غريش» هو ابن الشيوعي الفرنسي المصري الشهير «هنري كورييل»، وقد وُلد وشبّ بمصر، وعندما مضى إلى فرنسا في مطلع الستينيات، ظلَّ (مثل «أريك رولو» الأكبر منه سناً) مشغولاً بمصر والعرب والإسلام، والعلائق بين أوروبا ومهاجريها المسلمين، وأصدر في ذلك عدة كتب، فضلاً عن مقالاته في المجلة الشهرية لجريدة «لوموند» في الموضوعات ذاتها.

&

كتاب «غريش» المترجم قديم (2004)، لكنه كتب له مقدمة طويلة إثر حدث «شارلي أيبدو» الشهير، والذي نكأت أحداث باريس الأخيرة والمفجعة جراحه. كان سؤال «غريش»: لماذا كان حدث شارلي أيبدو بباريس تحديداً؟ وعاد في محاضرته ليكرر السؤال الصعب ذاته مُضيفاً إليه الحدث الأخير. في الحدث الأول قُتل 16 شخصاً، وفي الثاني 130 شخصاً. وبالطبع فالكاتب تحدث بدايةً عن سياقات الحدثين، لكنه عاد إلى الهجرة والمهاجرين العرب الذين يبلغون الملايين، وشبابهم الحالي من الجيلين الثالث والرابع في ديار الغربة.

بعد هذه الملاحظات التمهيدية ينصبُّ اهتمام «غريش» على مشكلات مسلمي فرنسا مع السلطات أولاً، ثم مع السلطات والمجتمع ثانياً. فلماذا الإسلام هو المستهدَف والمشكلة؟ هل هي حرب حضارات؟ وهل المسلمون عصيُّون على الاندماج؟ لا شكَّ أنّ هناك اليوم خُوفاً من الإسلام، لكنْ كيف بدأت ظاهرةُ الخوف من المسلمين والنفور منهم؟ هناك الخصوصيات التي تقدمها العلمانية الفرنسية الصارمة، والتي تتصدى بالإدانة والتجريم لكل اختلاف ثقافي أو ديني. وكما انصبّ ذلك من قبل على اليهود، ثم على الأفارقة السود، فهو ينصبُّ منذ ثلاثة عقود على مسلمي فرنسا، ومعظمهم من المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا الشمالية. وقد قدِم أجدادهم وآباؤهم إلى فرنسا منذ أواخر القرن الـ19، ثم ازدادت موجات الهجرة والتهجير إبّان الاستقلال. إن المشكلة، يقول «غريش»، أنّ الفرنسيين فقدوا الذاكرة الكولونيالية، وهم لا يميلون لتحميل أنفسهم أو أسلافهم الاستعماريين أية مسؤولية عن واقع الدول المغاربية اليوم، وعن واقع المهاجرين في فرنسا والذين دفعت كثيرين منهم ظروف الاستعمار وما تلاه للاغتراب والمجيء إلى فرنسا.

يقول الكاتب إنه لمن العجب العُجاب أن تكون العلمانية المتشددة إياها تمييزية. والتمييز الذي يقصده لا يتناول ظروف العمل والبطالة والتهميش وحسْب، بل يتناول أيضاً الاختلاف، أي اختلاف. ويضرب مَثَلاً على ذلك بقضية النساء والحجاب. فقد أقبلت السلطة على إصدار القوانين المانعة للنساء المسلمات من لبس النقاب، ولاحقاً الحجاب في المدارس والمؤسسات. وعندما كان ذلك التضييق يحدث ويتوالى، كانت الظروف العالمية، وظروف الشرق الأوسط، تُضيفُ إلى «مخاطر» ورسوم الحجاب معاني وأبعاداً ما خطرت على أذهان الصغيرات اللواتي كنّ يبحثن عن هوية ما وجدْنها ولا وجدها آباؤهم في علمانية جمهورية الأنوار. وهكذا وجد الشبان المسلمون الواقعون بين ناري التطرف الإسلامي والثوران من جهة، والتضييق الفرنسي من جهةٍ أُخرى، أنفسهم يلجأون إلى العنف، وهم يشاهدون التجارب والمخاضات في ساحات الاضطراب، في أفغانستان البعيدة والبلقان القريبة. لكنْ أين مسؤولية الأهل، ومسؤولية المدرسة، ومسؤولية مساجد المهاجرين، ومسؤولية الإرهاب المستورَد في اصطناع الظاهرة؟ المسؤولية مشتركة بين عدة جهات، لكن الحكومات الفرنسية والأوروبية كانت تستطيع فعل الكثير لو نظرت للأمر بمنظار وطني، أو بمنظار مستقبلي.

هل نجح «غريش» في إقناعنا بأنّ الدولة الفرنسية كانت تستطيع تجنب ذلك كلّه؟ لقد أراح النفوس الخائبة والضائعة جزئياً، لكنّ الواقع يبقى أن المسلمين الأوروبيين باقون، والمشكلات باقية.
&