السيد ولد أباه

«رمي براغ» فيلسوف مسيحي فرنسي يزعم التخصص في الدراسات الإسلامية، كتب بعد الهجوم على صحيفة "شارلي إيبدو" سلسلة مقالات وتصريحات إعلامية يذهب فيها إلى القول إن جذور التعصب والعنف موجودة في النصوص الإسلامية المؤسسة، وإن المتطرفين والإرهابيين ينفذون أحكاماً صريحة في الشريعة الإسلامية. الأطروحة ذاتها هي التي قدمها براغ في كتابه "قانون الله"، الذي اعتمد فيه مقاربة مقارنة بين الديانات التوحيدية الثلاثة، خلص فيها إلى أنه إذا كانت المسيحية ديانة حب وأخلاق من دون مضمون قانوني، ومن هنا تلاؤمها مع النظم العلمانية الحديثة، فإن الإسلام في بنيته العقدية والتعبدية ديانة قانونية - سياسية لا يمكن أن ينفصل فيها الدين عن الدولة، ولا يمكن أن تتلاءم مع معايير الحداثة السياسية. من المعروف أن أدبيات الإسلام السياسي تعزز هذا التصور من خلال مقولة ازدواجية الدين والدولة وتحويل الشريعة إلى مدونة قانونية بالمعنى الحديث للعبارة، دون وعي بالفروق الجوهرية بين تجربة الحكم الإسلامي والدولة الحديثة، ودون تبين الاختلاف النوعي بين المنظور القيمي المعياري في الشريعة والمنظور الوضعي السياسي للقانون الحديث، الذي هو مقوم شرعية الدولة القومية الحديثة. تتمحور هذه الفروق بين نظام الشريعة الإسلامية ونظام القانون للدولة الحديثة في مستويات ثلاثة محورية هي معيار السيادة، وطبيعة الجسم السياسي، وطبيعة الأمرية القانونية. فبخصوص معيار السيادة، من الواضح أن هذا المفهوم هو المحدد لنموذج الدولة القومية الحديثة، وهو كما هو معروف مفهوم لاهوتي تم نقله إلى حقل الفكر السياسي الحديث مع "جان بودين" و"هوبز"، ويعني حاكمية السياسة بمفهومها الشامل المهيمن على كل دوائر النشاط الإنساني. وعلى الرغم من أن مفهوم السيادة ارتبط بأفكار الحرية الليبرالية التي ظهرت في سياق التحرر من وصاية المؤسسة الدينية، إلا أنه طرح دوماً إشكالات نظرية وعملية حادة بالنسبة للنظريات الديمقراطية، لما يتضمن من مبدأ تحكم إطلاقي. ومن هنا التعارض غير المحسوم بين مرجعية إنسانية كونية لقيم الحرية وإطار سياسي مغلق وضيق بحكم انبنائه على فكرة السيادة. ما بينته أبحاث عالم الاجتماع الأميركي "طلال أسد" والمفكر القانوني الكندي "وائل حلاق" أن حصر السيادة في الإسلام بالله وحده يلغي أي إمكانية لأسلمة الدولة السيادية الحديثة التي تقوم على المرجعية الإطلاقية الذاتية للدولة، (وذلك بالضبط هو عكس مفهوم الحاكمية، الذي بلورته أدبيات الإسلام السياسي، منذ المودودي وسيد قطب تعبيراً عن مفهوم الدولة الإسلامية).

أما بخصوص طبيعة الجسم السياسي، فالفرق واسع بين مفهوم الأمة الذي بلورته أدبيات الدولة الحديثة بمعنى المجموعة التعاقديّة القانونية ومفهوم الجماعة في التقليد الإسلامي الذي هو إطار أخلاقي. التصور الأول ينيط تشكل الجماعة السياسية باللحظة القانونية، ويحصر العلاقة بين أفرادها بالمعايير القانونية التي تتماهى مع وظيفة الدولة. والتصور الثاني يفصل بين البعد التدبيري للسلطة السياسية الحاكمة (تسيير العنف المشروع) وحاكمية الشريعة في المجتمع التي يمارسها الفقيه والمفتي والصوفي، وهي وظائف أخلاقية واجتماعية أكثر تأثيراً من قبضة الدولة التي كانت دوماً هشة وغير مستقرة في التقليد الإسلامي. أما بخصوص الأمرية القانونية، فالفرق جلي بين منظومة وضعية مقننة تتأسس شرعيتها على الإرادة الجماعية المشتركة، على الرغم من الإشكالات التي يطرحها مسار تشكل هذه الإرادة، والشريعة بصفتها منظومة قيمية أخلاقية حاكمة على الفرد والدولة، وليست نتاج الدولة ذاتها، ومن ثم لا معنى لوصف الإسلام بأنه دين ودولة باعتبار أن مظلته الأخلاقية متسعة للشأن العام وغير محصورة في الوعي الفردي. الفصل بين الدين والدولة في التقليد الإسلامي حقيقي لكنه - كما بين وائل حلاق- قائم على أساس خط التمايز الأخلاقي وليس على أساس الخط السياسي.

&


وحاصل الأمر أن التقليد الإسلامي لم يعرف فكرة الدولة المجسدة للدين، (الذي هو الخلفية البعيدة للدولة السيادية الحديثة)، أو الدولة المعبرة عن الجسم الاجتماعي الكلي، بل إن نقطة الانطلاق فيه هي حفظ الدين في الاجتماع الأهلي، والحاكمية المرجعية لمنظومته الأخلاقية على الدولة والمجتمع.