غسان الإمام


مع تنهيدة متأسفة، يعلن جيمس بيكر أن «كل شيء يتفتت في المنطقة». وقبل أن يغيب الرجل من الذاكرة، أقول إنه أكثر وزراء خارجية أميركا السابقين اتزانا. فقد جمع أكبر ائتلاف دولي وعربي، لإخراج صدام بالقوة من الكويت. والتأكيد على أن أمن الخليج خط أحمر. ثم جمع العرب وإسرائيل في مؤتمر مدريد (1991) في محاولة للعثور على تسوية للقضية الفلسطينية.


في جدلية الاستقرار والديمقراطية التي شغلت أميركا، في المنطقة العربية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان بيكر ورئيسه جورج بوش (الأب) من أنصار الحفاظ على استقرار النظام العربي. لكن الرؤساء الأميركيين الثلاثة الذين تتابعوا بعد «بوشبيكر» اعتبروا الديمقراطية أداة لهز استقرار النظام العربي، وتحريك الجمود المتراكم في المنطقة.


وكان لكل من هذه «الترويكا» أسلوبه. فقد اعتمد بيل كلينتون تمرير الديمقراطية من ثقب باب التسوية الفلسطينية. السورية. الإسرائيلية. واستغنى بوش الابن عن صبر أبيه على صدام. وأسقطه في حرب عاتية، انتقاما لتفجير نيويورك الذي لم يكن لصدام علاقة به. ثم وصل الأمر بباراك حسين أوباما، في التناقض مع ثقافته اليسارية الليبرالية، إلى اعتماد «الإخوان المسلمين» وأشباههم أداة أميركا، لإرساء ديمقراطية الانتفاضة.


تنهيدة بيكر الحارة ترددت أصداؤها في أروقة القصر الملكي السعودي في الرياض. فقد كان مرافقا للرئيس أوباما، في عداد نخبة الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة في أميركا التي صاحبت أوباما في زيارة السعودية. وكان الغرض الدبلوماسي من الزيارة التعزية بمليك راحل ارتقى بالسياسة السعودية إلى مستوى تحدي سياسة أوباما في المشرق العربي، وإحباط مخططه لفرض «الديمقراطية الإخوانية» على الانتفاضة. وعلى النظام العربي.
أما الغرض السياسي من الزيارة، فقد كان الاستماع إلى مليك جديد، تربع على مفترق تغيير كبير في القمة السعودية. وما شجع على الاستماع انسجام شرعية التغيير مع استقرار النظام السعودي. ومع المبايعة الشعبية والرسمية المطلقة للملك سلمان عبد العزيز.


جون كيري حرص على أن يكون اللقاء مع الملك سلمان حارا ويعبر عن الرغبة الواضحة في استرضاء العاهل السعودي الجديد. ثم أظهرت اللقطات التلفزيونية مدى الاهتمام والاحترام الذي اتسم به إصغاء الرئيس أوباما لكلام المليك. وأخيرا جاء تصريح سوزان رايس مديرة مكتب الأمن القومي المرافقة لأوباما (أنا هنا لتعزيز العلاقات مع السعودية) بمثابة اعتذار عن توجهات السياسة الأميركية التي أثارت غضب وقلق القيادات السياسية السعودية في السنوات الأخيرة.


وأود أن أنوِّه بأن سوزان رايس بالذات هي في مقدمة مساعدي أوباما النافذين المؤيدين لتغليب الديمقراطية على الاستقرار في المنطقة العربية. وكانت ضمنا مع تأديب بشار (الكيماوي) بضربة أميركية قوية. ولعل في رغبتها بتعزيز العلاقات مع السعودية، اعتذارا شخصيا منها، عن استعجالها تطبيق الديمقراطية في المنطقة، قبل توفر الظروف المناسبة.


مع إشكالية الجدل الأميركي الطويل حول الاستقرار والديمقراطية في العالم العربي، أعتقد أن الملك سلمان بن عبد العزيز قدم حلا يرضي أهل الاستقرار. ويقنع أنصار الديمقراطية. ففي تصريحاته الأخيرة، أجد في المفردات التي استخدمها عناصر تشكل، في مجموعها، مبدأ سياسيا متكاملا، لنهجه في الملك والحكم.


«مبدأ سلمان» انطوى على «الاعتدال. والوسطية. والتسامح... في دولة قوية. آمنة... تنعم بالأمن. الرخاء. الاستقرار. والوحدة في القلوب... وقد قامت منذ محمد بن سعود على الإسلام والعقيدة الإسلامية... ولن تحيد عن السير في هذا النهج الذي أرساه الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود».


وإذا كان لي أن أفسر بلغة سياسية مفردات خادم الحرمين الشريفين، فأمهد بالقول إن النظام العربي، وفي مقدمته النظام السعودي، بات اليوم أكثر ليبرالية من مجتمعاته المحافظة دينيا. فقد تجاوزت هذه المجتمعات عموما مفهوم الديمقراطية بما ينطوي عليه أساسا، من فصل بين الدين والدولة.


وهكذا، فالاعتدال في «مبدأ سلمان» يعني دولة تمارس الانفتاح في سياستها الداخلية والخارجية. والوسطية هي التسامح الديني. فلا جنوح في الإفتاء الفقهي إلى التزمت. والتطرف. والعنف، ولا تسييس للدين ينحدر بقداسته، إلى حيث يغدو أداة للتنظيمات السياسية الدينية، في المزايدة على الدولة والنظام، أو الزندقة وتكفير المعارضات السياسية.


وفي «مبدأ سلمان» أيضا، تعهد سعودي صريح بالإسهام «في ترسيخ الأمن والسلم الدوليين. والنمو الاقتصادي العالمي». وفي حديثه أمام مجلس الوزراء الجديد، في أول انعقاد له، بعد مباحثات سلمان/ أوباما، إشارة واضحة إلى عزم السعودية على «الاستمرار في تعزيز وتطوير (العلاقة الثنائية) في المجالات كافة، بما يدعم المصالح المشتركة للبلدين وشعبيهما».
والآن كيف يبدو المشهد العربي والدولي، بعد اللقاء التاريخي السعودي/ الأميركي؟
الطريف أن الديمقراطية تتآكل مع صعود العنف الديني. هناك حزمة قوانين وإجراءات ردع أمنية في العالم كله. وحتى في أميركا. فقد تحول تجسس «وكالة الأمن الوطني» على «داعش» و«النصرة»، إلى التجسس على الحرية الشخصية لملايين المواطنين الأميركيين.


الأطرف أن الإلحاح الأميركي على تبني حصان طروادة «الإخواني» أدى إلى دمجه مع أنظمة وحكومات عربية. وآخرها عجز الحكومة التونسية الجديدة على نيل الثقة النيابية، إلا بعد توزيرها حزب «النهضة» الديني.


في مصر، لم يتسلم الجيش المصري، بعد، مروحيات «الأباتشي» الأميركية الهجومية. ولا الدعم المالي العسكري (1.3 مليار دولار سنويا) في ذروة الصدام مع «حماس» الإخوانية الفلسطينية التي تغزو سيناء والعمق المصري بتنظيم «أنصار بيت المقدس»، الأمر الذي اضطر نظام السيسي إلى العودة لشراء «الكاتيوشا» و«الكلاشنيكوف» من بوتين. بل منعت أميركا الصناديق الدولية من تقديم قروض لمصر، في محنتها المالية التي تسببت بها الأزمة مع «الإخوان».


ولعل التفاهم السعودي/ الأميركي الجديد ينهي تاريخا من «الحروب» الأميركية الحديثة على النظام العربي (السني): الانقلابات السورية ضد ديمقراطية نظام القوتلي. تقويض نظام عبد الناصر في حرب النكسة. إكراه السادات على القبول بصلح الكامب مع إسرائيل. وإغراؤه بالتعاون مع التنظيمات الدينية المسلحة التي اغتالته. توريط العرب في حرب أفغانستان ضد الروس. إسقاط صدام الذي لم يعرف كيف يمارس مسؤوليته في حماية نظامه. وتسليم العراق إلى نظام طائفي تهيمن عليه إيران، الأمر الذي أدى إلى ولادة تنظيم سني مغفل (داعش) يعرف كيف يثير العرب والعالم ضده علنا. وضد السنة ضمنا.


في المقابل، عوّم النظام العربي اقتصاد مصر بعشرين مليون دولار. وقدم أربعة مليارات دولار للجيش اللبناني الذي يواجه غزوة «داعش» و«النصرة». ويقدم مساعدات لملايين النازحين السوريين تفوق المساعدات الأميركية والدولية. وفتح فروعا لأرقى جامعات العالم في الخليج، بما فيها جامعة المليك الراحل عبد الله للعلوم. ويشارك في مكافحة «داعش». ويحمي الثقافة التراثية والحداثية العربية من هجمة ظلامية في الخليج ومصر.
يبقى الامتحان الحقيقي لأحزان بيكر، ولاعتذارات رايس، في العشاء «النووي» لجون كيري مع روحاني وظريف: هل تنتهج أميركا سياسة متوازنة في المنطقة، أم تترك صحيفة «صرماية» الإيرانية تسخر من أميركا، محاكيةً سخرية «شارلي إيبدو» المتهجمة على الأديان؟

&


&