عبد المنعم سعيد

لا داعي لوجود حالة من التفاؤل المبكر حول أسعار النفط بعد عودتها إلى الارتفاع مرة أخرى حتى وصلت في المتوسط إلى 58 دولارا للبرميل. هذه بالطبع قفزة كبيرة إلى أعلى بعد قفزات أكبر إلى أسفل طوال الشهور الستة الماضية، لكن الحصافة تقتضي الحرص في هذه المرحلة. أولا، لأنه كان متوقعا التعرض لفترة من التذبذب في الأسعار بين الهبوط والصعود نتيجة عوامل وقتية، قبل أن تستقر عند اتجاه للصعود قبل نهاية العام. وثانيا، لأن هناك عددا من العوامل العارضة التي خلقت فجوة في العرض نتيجة إضراب عمال مصانع تكرير البترول في الولايات المتحدة؛ وهي مسألة كما نعلم تأخذ وقتها من المفاوضات والمساومات، وبعدها يعود الجميع إلى الإنتاج مرة أخرى، بل مع محاولة تعويض ما فات.


لكن العوامل العارضة لا تغني عن ملاحظة عوامل أخرى هيكلية مؤثرة في المدى المتوسط تؤثر على كل من العرض والطلب، بدأت في العمل بالفعل ربما بأسرع مما كان متوقعا. فمن ناحية فإن انخفاض الأسعار نتيجة زيادة العرض جعل كثيرا من الشركات الكبرى النفطية مثل «بريتش بتروليوم» و«شل» و«توتال» و«شيفرون» تخفض من استثماراتها الجديدة بمقدار 35 مليار دولار؛ وقامت شركة «أرامكو» بتجميد مشروعها الهائل لاستخراج البترول من البحر الأحمر. ومن ناحية ثالثة فإن ما كان متوقعا أن العنصر الجديد في زيادة العرض، والذي جاء من النفط الصخري، يعاني من أن آباره ذات عمر قصير لا يتجاوز العامين وبعدها تخرج من الإنتاج، وفي يوم واحد خرج 94 بئرا من الإنتاج، وهو أكبر معدل للحدوث في يوم واحد خلال الأعوام العشرين الأخيرة. إذا أضيفت إلى ذلك التكلفة العالية لحفر بئر جديدة والتي تتراوح تقديراتها حسب التكنولوجيا المستخدمة من 57 إلى 80 دولارا للبرميل، فإن غالبية الآبار المنتجة تصبح غير اقتصادية، وتسبب خسائر فادحة لمجرد بقائها في العمل. ومن ناحية رابعة أن كل العوامل السابقة تؤثر على الطلب، سواء الفعلي من مستهلكين، أو من المضاربين الذين يستغلون فرصة انخفاض الأسعار في بناء مخزون مؤقت يستفيد من الأوضاع الحالية.


كل ذلك يقودنا إلى استنتاجين: الأول أن انخفاض الأسعار ربما وصل إلى القاع الذي كان جميع المحللين يبحثون عنه. والثاني أننا في المدى القصير - هذا العام - والمتوسط - حتى نهاية 2016 – سيتراوح السعر ما بين 45 دولارا و80 دولارا. أضف إلى ذلك استنتاجا سابقا تكاد تتفق عليه الأغلبية الساحقة من المراقبين أن عصر 100 دولار للبرميل لم يعد ممكنا مرة أخرى، لأن الاقتراب منه يعني «أوتوماتيكيا» تشغيل آليات أخرى تجعل كل أشكال الطاقة الأخرى رخيصة فينخفض السعر. فإذا كان ذلك كذلك، ومع التجربة التي مرت بها الدول المنتجة خلال الشهور والأسابيع الماضية بين التدهور السريع والارتفاع المفاجئ، فإن إنذارا مبكرا قد جرى للدول المنتجة للنفط، وما يهمنا منها هنا الدول العربية التي يتوقف على رخائها رخاء الدول العربية الأخرى، فضلا عن أمنها ومستقبلها. هذه الدول تعرف منذ وقت بعيد أولا أن النفط سلعة قابلة للنضوب (البحرين دائما تعطي مثالا حيا)؛ وثانيا أن تنويع مصادر الدخل من الصناعة والخدمات والزراعة، إذا كان ممكنا، من الأمور والحيوية. والحقيقة أن الدول العربية المنتجة تفاوتت في مدى النجاح في عملية التنويع هذه، ولكن في كل الأحوال فإن النفط بقي جزءا مهما من ناتجها المحلي الإجمالي. وفي ظل وجود احتياطيات نفطية ضخمة، فإن السباق سوف يبقى قائما بين النفط وأسعاره، وأسعار أشكال الطاقة الأخرى متجددة أو غير متجددة، والمرجح أنه عند نقطة ما قبل منتصف القرن الحالي فإن احتمال تجاوز مصادر الطاقة الأخرى للنفط لا يمكن استبعاده، أو عدم التفكير فيه، خاصة لو كانت كل الحلول المتصورة سوف تحتاج وقتا غير قليل لتطبيقها.


لقد سبق أن اقترحت تصنيع البترول كاستراتيجية للمدى الطويل، فهو مادة كربونية بالغة التعقيد والغنى، وما يصدر منها من منتجات يمكنه تعويض ما كان يستخدم في حياتنا المعاصرة. لقد قطعنا شوطا طويلا في جانب واحد من تصنيع البترول من أول تكريره وحتى المنتجات البتروكيماوية واستخدامه في صناعات أخرى كثيفة الاستخدام للطاقة وحتى في إنتاج الكهرباء. ولكن كل ذلك ليس كافيا، وربما نحتاج لتعميق تصنيع النفط سواء من خلال إنتاج جديد أو تعميق منتجات سابقة إما بتحسينها أو بتوسيع السوق المتلقية لها. فكما نعرف أن أسعار البترول وسوقه ارتبطت دائما بالسوق العالمية التي يحتل استهلاك الدول الصناعية المتقدمة الشق الأعظم منها؛ وعندما تشبعت هذه السوق وانهار سعر البترول خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، فإن الدخول الكبير للصين والهند إلى السوق أدى إلى عودة الأسعار إلى الارتفاع. من جانب آخر، فإنه نتيجة التقدم الاقتصادي فإن السوق المحلية أخذت بدورها تدخل إلى ساحة الطلب.


إن اقتراحنا هنا في مجال تصنيع النفط له جانبان: أولهما يعتمد على البحث العلمي الذي يسعى إلى إنتاج منتجات بلاستيكية تحل محل الصلب في إنتاج العديد من السلع سواء كانت سيارات أو سلعا منزلية أخرى. إن هذا الأمر مستخدم بالفعل الآن ولكن في نطاقات ضيقة، وفي أجزاء معينة من السلع؛ وما ينطبق على البلاستيك ينطبق على الأسمدة اللازمة للإنتاج الزراعي. هنا تحديدا يأتي الجانب الثاني الذي يعتمد على زيادة الطلب الإقليمي على النفط والغاز ومشتقاتهما. والمثال على ذلك أن مشروع «أرامكو» لإنتاج النفط من البحر الأحمر لا ينبغي له أن يكون من أجل إنتاج المزيد من البترول، أو من العرض في السوق العالمية، وإنما من أجل التنمية الإقليمية العابرة للبحر إلى مصر والساحل الغربي فيها، بحيث يجعله جاذبا لكتلة سكانية واسعة من خلال إنتاج كهرباء يجري تصديرها، وتحلية لمياه يجري استخدامها في الشرب والزراعة كلما كان ذلك ممكنا ما دامت الأسمدة سوف تكون متوافرة.


ولو عرفنا أنه على الجانب المصري من البحر توجد 81 جزيرة غير آهلة بالسكان حتى الآن، مضافة إلى عدد غير معروف من الجزر اللصيقة بالساحل السعودي، فإن النفط يمكنه أن يكون عاملا فاعلا ليس فقط في جعل البحر الأحمر بحيرة عربية بالفعل، بل إنه يخلق سوقا كبيرة للسياحة والعقارات والتنمية بكل أشكالها، ليس فقط على جانبي البحر وإنما ممتدة بعيدا إلى ما وراءهما. الخلاصة أن نفط الدول العربية المنتجة عليه أن يخلق إلى جانب الطلب المحلي والعالمي طلبا إقليميا تنمويا سوف ينهي ربما تلك الحالة من الشكوك والهواجس حول ارتفاع أسعار البترول وانخفاضها.